للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الحمد يكون بالقلب واللسان، وأما الشكر فهو أخص من حيث الوقوع، فالشكر لا يكون إلا مع الصفات المُتعدّية. يُقال: شكر فلاناً لكرمه، ولا يُقال: شكره لفروسيته وشجاعته، . فالشّكر يكون جزاءً على نعمة انتفع بها، بينما يأتي الحمد جزاءً كالشكر، ويأتي ابتداءً" (١).

والثالث: أن الحمد ثناء العبد على الممدوح بصفاته من أن يسبق إحسان الممدوح، وأمّا الشكر فهو ثناء على المشكور بما قدّم وأجزل من الإحسان، وعلى هذا القول قال علماء الإسلام: الحمد أعم من الشكر.

قال أحمد بن محمد الخطابي البستي: "الحمد نوع والشكر جنس، وكل حمد شكر، وليس كل شكر حمدا" (٢).

والرابع: وهناك من يقول بأنّ الحمد والشكر مُتَقاربان، والحمد أعَمُّ، لأنَّ العبد حمَد الممدوح على صِفاته الذاتيَّة وعلى كثرة عطائه، ولا تَشْكُره بالتالي على صِفاته (٣).

ويقال: " شكرته وشكرت له وباللام أفصح" (٤) المشهور باللام وهو الأكثر استعمالاً، قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: ١٤]، وقال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلّهِ} [البقرة: ١٧٢]، ويأتي متعدياً بنفسه كما في قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ} [النحل: ١١٤].

وفي قول الشاعر (٥):

شَكرْتكَ إنَّ الشُّكْرَ حبلٌ من التقي ... وما كُلُّ من أوليته نعمةً يقضي

فقال شكرتك، مع أن الغالب في الاستعمال أن يقول: شكرت لك.

أما المدح: "فهو أعم من الحمد، لأنه يكون للحي وللميت وللجماد أيضاً، كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك، ويكون قبل الإحسان وبعده، وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضاً فهو أعم" (٦).

وللحمد صيغ، منها:

١ - الحمد لله: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي (٧) مما طلعت عليه الشمس" (٨).


(١) سليمان بن إبراهيم بن عبد الله اللاحم (١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م)، اللباب في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب (الطبعة الأولى)، الرياض - المملكة العربية السعودية: دار المسلم للنشر والتوزيع، صفحة ٢١٨، جزء ١١.
(٢) غريب الحديث: ١/ ٣٤٦.
(٣) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (١٤١٦ هـ - ١٩٩٦ م)، (الطبعة الثالثة)، بيروت: دار الكتاب العربي، صفحة ٢٣٧، جزء ٢٢.
(٤) تفسير ابن كثير: ١/ ٤٤.
(٥) البيت لأبي نُخَيلة، انظر: مروج الذهب: (٣/ ٢٨٧)، والأغاني: (٢٠/ ٣٩٢). وطبقات الشعراء: لابن المعتز ص (٦٤).
(٦) تفسير ابن كثير: ١/ ٤٤.
(٧) وقد استشكل الكثيرون - كابن جرير الطبري، وابن العربي المالكي وغيرهما - كيف تتم المقارنة أصلاً بين الدنيا وما ذكر في الحديث؟ وكيف أطلق المفاضلة بين المنزلة التي أعطيها، وبين ما تطلع عليه الشمس، مع أن من شرط المفاضلة استواء الشيئين في أصل المعنى؟ ! ثم كيف يزيد أحدهما على الآخر، ولا استواء بين تلك المنزلة والدنيا بأسرها؟ !
وجوابًا على ذلك - من وجوه - وباختصار نقول:
أولاً: إن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أحب إليَّ من الدنيا))؛ أولًا: يفضي إلى درجات الآخرة، وكل ما كان مفضيًا إلى درجات الآخرة، يكون أفضل وأحب من الدنيا؛ لأن الدنيا مفضية إلى الهلاك.
وثانيًا: كانت هي أحب إليه من كل شيء؛ لأنه لا شيء إلا الدنيا والآخرة، فأخرج الخبر عن ذكر الشيء بذكر الدنيا؛ إذ كان لا شيء سواها إلا الآخرة.
وثالثًا: أن يكون خاطب أصحابه بذلك، على ما قد جرى من استعمال الناس بينهم في مخاطبتهم، من قولهم - إذا أراد أحدهم الخبر عن نهاية محبته للشيء -: هو أحب إليَّ من الدنيا، وما أعدل به من الدنيا شيئًا؛ كما قال - عز وجل: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: ١٥٥]، ومعنى ذلك: لنهينَنَّه ولنُذلنَّه؛ لأن الذين خوطبوا بهذا الخطاب كان في إذلالِهم مَن أرادوا إذلالَه السَّفعُ بالناصية، فخاطبهم بالذي كانوا يتعارفون بينهم.
ورابعًا: أن أفعل قد لا يراد بها المفاضلة؛ كقوله - عز وجل: {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: ٢٤٤]، ولا مفاضلة بين الجنة والنار.
وخامسًا: أن يراد المفاضلة بين ما دلت عليه وبين ما دل عليه غيرُها من الآيات المتعلقة به، فرجحها، وجميع الآيات وإن لم تكن من أمور الدنيا فإنها أنزلت لأهل الدنيا، فدخلت كلها فيما طلعت عليه الشمس، والله أعلم.
[انظر: شرح صحيح البخاري (١٠/ ٢٤٩)، لابن بطال، وفتح الباري (٨/ ٥٨٣)، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (٨/ ١٢٦)، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (١٠/ ٤٠)].
(٨) رواه مسلم (٢٦٩٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>