للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنَّما يقبل الله التوبة من الذين يرتكبون المعاصي والذنوب بجهل منهم لعاقبتها، وإيجابها لسخط الله -فكل عاص لله مخطئًا أو متعمِّدًا فهو جاهل بهذا الاعتبار، وإن كان عالمًا بالتحريم- ثم يرجعون إلى ربهم بالإنابة والطاعة قبل معاينة الموت، فأولئك يقبل الله توبتهم. وكان الله عليمًا بخلقه، حكيمًا في تدبيره وتقديره.

قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: ١٧]، أي: " إنَّما يقبل الله التوبة من الذين يرتكبون المعاصي والذنوب بجهل منهم لعاقبتها" (١).

قال مجاهد: " ما أتى من خطأ أو عمد فهو جهالة" (٢). وفي رواية أخرى: " من عمل ذنبا سواء من شيخ أو شاب فهو بجهالة" (٣).

وقال الربيع: " هم أهل الإيمان" (٤).

قال الراغب: " تعني: أن قبول التوبة قد أخذ الله على نفسه تفضلا لمن تاب من قريب إذا بدر منه سوء" (٥).

قال الزجاج: في معنى قوله: {بجهالة}: " ليس معناه أنهم يعملون السوء وهم جهال، غير مميزين فإن من لا عقل له ولا تمييز لا حد عليه، وإنما معنى بجهالة أنهم في اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية جهال. فليس ذلك الجهل مسقطا عنهم العذاب. لو كان كذلك لم يعذب أحد ولكنه جهل في الاختيار" (٦).

قال الحسن: يعني التوبة التي يقبلها الله" (٧)، فتكون {على} بمعنى "عند"، أقامه مقام صفة (٨).

وقال أبو بكر بن عياش: {على} هاهنا بمعنى «من» يقول: إنما التوبة من الله للذين يعملون السوء بجهالة" (٩).

واختلف في المراد بالجهالة على أقوال:

أحدها: أن كل ذنب أصابه الإِنسان فهو بجهالة، وكل عاص عصى فهو جاهل، وهو قول ابن عباس (١٠)، وأبي العالية (١١)، وقتادة (١٢)، والسدي (١٣)، وابن زيد (١٤)، ومجاهد- في أحد قوليه- (١٥)، واختاره الشافعي (١٦).

قال الثعلبي: " وقال سائر المفسرين: يعني المعاصي كلها، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته" (١٧).

والثاني: يريد يعملون ذلك عمداً، والجهالة العمد، وهو قول مجاهد (١٨)، وعطاء (١٩)، والضحاك (٢٠).

والثالث: الجهالة عمل السوء في الدنيا، وهو قول عكرمة (٢١).

والرابع: هو أن يتوب قبل موته بفواق ناقة. قاله أبو موسى الأشعري (٢٢).

والراجح-والله أعلم- أن المعنى: أنهم " يعملون السوء بجهالة وإن أتوه على علم منهم بمبلغ عقاب الله أهله، عامدين إتيانه، مع معرفتهم بأنه عليهم حرام لأن فعلهم ذلك كان من الأفعال التي لا يأتي مثله إلا من


(١) التفسير الميسر: ١/ ٢٤٣.
(٢) تفسير سفيان الثوري: ٩٢.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٤٩٩٦): ص ٣/ ٨٩٧.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم (٤٩٩٧): ص ٣/ ٨٩٧.
(٥) تفسير الراغب الأصفهاني: ٣/ ١١٤٥.
(٦) معاني القرآن: ٢/ ٢٩.
(٧) تفسير الثعلبي: ٣/ ٢٧٣.
(٨) انظر: تفسير الثعلبي: ٣/ ٢٧٣.
(٩) تفسير الثعلبي: ٣/ ٢٧٣.
(١٠) انظر: تفسير الطبري (٨٨٣٧): ص ٨/ ٩٠.
(١١) انظر: تفسير الطبري (٨٨٣٢): ص ٨/ ٨٩.
(١٢) انظر: تفسير الطبري (٨٨٣٣): ص ٨/ ٨٩.
(١٣) انظر: تفسير الطبري (٨٨٣٦): ص ٨/ ٨٩ - ٩٠.
(١٤) انظر: تفسير الطبري (٨٨٣٩): ص ٨/ ٩٠.
(١٥) انظر: تفسير الطبري (٨٨٣٤): ص ٨/ ٨٨.
(١٦) انظر: تفسير الإمام الشافعي: ٢/ ٥٥٧.
(١٧) تفسير الثعلبي: ٣/ ٢٧٣.
(١٨) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (٥٠٠٠): ص ٣/ ٨٩٧.
(١٩) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (٥٠٠٠): ص ٣/ ٨٩٧.
(٢٠) انظر: تفسير الطبري (٨٨٤٢): ص ٨/ ٩١، وتفسير ابن أبي حاتم (٤٩٩٨): ص ٣/ ٨٩٧.
(٢١) انظر: تفسير الطبري (٨٨٤٣): ص ٨/ ٩١، وتفسير ابن أبي حاتم (٥٠٠٣): ص ٣/ ٨٩٨.
(٢٢) انظر: تفسير الثعلبي: ٣/ ٢٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>