للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والراجح-والله أعلم- أن «الفضل» في هذا الموضع هو " النبوّة التي فضل الله بها محمدًا، وشرّف بها العرب، إذ آتاها رجلا منهم دون غيرهم لما ذكرنا من أن دلالة ظاهر هذه الآية، تدلّ على أنها تقريظٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رحمة الله عليهم، (٢) على ما قد بينا قبل. وليس النكاح وتزويجُ النساء وإن كان من فضْل الله جل ثناؤهُ الذي آتاه عباده بتقريظ لهم ومدح" (١).

قوله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: ٥٤]، أي: " فقد أعطينا ذرية إبراهيم عليه السلام -من قَبْلُ- الكتب، التي أنزلها الله عليهم وما أوحي إليهم مما لم يكن كتابا مقروءا، وأعطيناهم مع ذلك ملكا واسعا" (٢).

قال الزمخشري: قوله" {فقد آتينا}، إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما آتى أسلافه" (٣).

وفي {الْكِتَابَ} [النساء: ٥٤]، وجهان:

أحدها: أنه الخط والقلم. قاله ابن عباس (٤)، وروي عن عطاء (٥)، ويحيى بن أبي كثير (٦)، ومقاتل بن حيان (٧) نحو ذلك.

والثاني: أنه القرآن. وهذا قول الحسن (٨)، وأبي مالك (٩).

وفي {َالْحِكْمَةَ} [النساء: ٥٤]، وجوه:

أحدها: انها السنة. قاله الحسن (١٠)، وأبو مالك (١١)، وقتادة (١٢)، ومقاتل بن حيان (١٣)، ويحيى بن ابي كثير (١٤).

والثاني: انها النبوة. قاله السدي (١٥).

والثالث: أن الحكمة: العقل في الدين. قاله زيد بن أسلم عن أبيه (١٦).

وفي قوله: {مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: ٥٤]، أربعة أقاويل:

أحدها: أنه ملك سليمان بن داود، وهو قول ابن عباس (١٧)، وعطية (١٨).

والثاني: النبوة، وهو قول مجاهد (١٩).

والثالث: ما أُيِّدُوا به من الملائكة والجنود، وهو قول همام بن الحارث (٢٠).

والرابع: من أباحه الله لداود وسليمان من النساء من غير عدد، حتى نكح داود تسعاً وتسعين امرأة، ونكح سليمان مائة امرأة، وهذا قول السدي (٢١).

والراجح-والله أعلم- أنه يعني بالملك العظيم: " ملك سليمان، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، دون الذي قال إنه ملك النبوّة، ودون قول من قال: إنه تحليلُ النساء والملك عليهن، لأن كلام الله الذي خوطب به العرب، غيرُ جائز توجيهه إلا إلى المعروف المستعمل فيهم من معانيه، إلا أن تأتي دلالةٌ أو تقوم حُجة على أن ذلك بخلاف ذلك، يجبُ التسليم لها" (٢٢).

قال السمعاني: " أراد بـ {آل إبراهيم}: داود، وسليمان، و {الكتاب}: هو الكتاب الذي أنزل عليهم، وأما {الحكمة}: قيل: هي النبوة، وقيل هي السنة، ومعنى الآية: أنهم إن حسدوا الرسول بما أوتى من الفضل، فليحسدوا آل إبراهيم؛ فإنهم قد أوتوا الكتاب والحكمة {وآتيناهم ملكا عظيما}، واختلفوا في الملك العظيم: فمن فسر الفضل بتحليل الزوجات، فسر الملك العظيم به أيضا، وقد كان لداود تسع وتسعون امرأة، ولسليمان مائة امرأة، وقيل: كان لسليمان سبعمائة امرأة، وثلثمائة سرية، وقيل: أعطى نبينا صلوات الله عليه قوة سبعين شابا في المباضعة " (٢٣).

الفوائد:

١ - ذم اليهود على حسدهم المسلمين، وأن الحسد من صفاتهم وأخلاقهم.

٢ - أن الإيمانُ بالقدَر يقضي على كثيرٍ من الأمراض التي تعصفُ بالمجتمعات، وتزرعُ الأحقادَ بين المؤمنين، وذلك مثلُ رذيلةِ الحسَدِ، فالمؤمنُ لا يحسدُ الناس على ما آتاهم اللهُ من فضله؛ لأنه هو الذي رزقَهم وقدَّر لهم ذلك، وهو يعلم أنه حين يحسدُ غيره إنما يعترضُ على المقدورِ، قال تعالى عن اليهود: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ .. }.

٣ - أن الحسد مذموم، والحاسد غير الغائظ، لأن الحاسد من لا يحب الخير لغيره، ويتمنى زواله عنه. والغائظ من يتمنى أن يكون له من الخير مثل ما لغيره. ولهذا جاز أن يقال في الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم ابعثه مقامًا محمودًا يغبطه به الأولون والآخرون" (٢٤)، فإن المعنى: ابعثه مقامًا يتمنى كل واحد من الأولين والآخرين إن كان له مثله. ولو كان ذلك كالحسد ما جاز بهذا القول ولا حسن، وإنما كان الحسد مذمومًا، لأن الحسد يعد إحسان الله تعالى إلى أخيه المسلم إساءة إليه، وهذا جهل منه. لأن الإحسان الواقع لمكان أخيه لا يضره شيئًا. فإنما عند الله تعالى ليس بنقص من ذلك فيخشى أن لا يناله منه بعد ما نال غيره نصيب، لكن ما عند الله واسع. وذا كان ذلك كذلك، فالأولى به أن يفرح بما يراه من آثار نعمة الله عند أخيه المسلم، ويشكره ويحمد عليه ويسأله أن يؤتيه مثله. فأما الاعتماد بما أكرم أخاه فليس له في المعتقد وجه (٢٥).

القرآن

{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (٥٥)} [النساء: ٥٥]

التفسير:

فمن هؤلاء الذين أوتوا حظًّا من العلم، مَن صدَّق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعمل بشرعه، ومنهم مَن أعرض ولم يستجب لدعوته، ومنع الناس من اتباعه. وحسبكم -أيها المكذبون- نار جهنم تسعَّر بكم.

قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} [النساء: ٥٥]، أي: " فمن هؤلاء الذين أوتوا حظًّا من العلم، مَن صدَّق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعمل بشرعه " (٢٦).

قال مقاتل: " يقول: صدق بالكتاب الذي جاء به" (٢٧).

قال ابن كثير: " أي: بهذا الإيتاء وهذا الإنعام" (٢٨).

وفي قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} [النساء: ٥٥]، وجهان:

أحدهما: أي: من اليهود، منهم من آمن بما أنزل على النبي محمد-صلى الله عليه وسلم-. وهذا قول مجاهد (٢٩).


(١) تفسير الطبري: ٨/ ٤٧٩.
(٢) التفسير الميسر: ٨٧.
(٣) الكشاف: ١/ ٥٢٢.
(٤) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٤٧٣): ص ٣/ ٩٧٩.
(٥) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٤٧٤): ص ٣/ ٩٧٩.
(٦) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٤٧٤): ص ٣/ ٩٧٩.
(٧) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٤٧٤): ص ٣/ ٩٧٩.
(٨) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٤٧٥): ص ٣/ ٩٧٩.
(٩) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٤٧٥): ص ٣/ ٩٧٩.
(١٠) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٤٧٦): ص ٣/ ٩٧٩.
(١١) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٤٧٦): ص ٣/ ٩٧٩.
(١٢) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٤٧٦): ص ٣/ ٩٧٩.
(١٣) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٤٧٦): ص ٣/ ٩٧٩.
(١٤) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٤٧٦): ص ٣/ ٩٧٩.
(١٥) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٤٧٧): ص ٣/ ٩٨٠.
(١٦) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٤٧٨): ص ٣/ ٩٨٠.
(١٧) انظر: تفسير الطبري (٩٨٢٩): ص ٨/ ٤٨١.
(١٨) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٤٧٩): ص ٣/ ٩٨٠.
(١٩) انظر: تفسير الطبري (٩٨٢٦)، و (٩٨٢٧): ص ٨/ ٤٨٠ - ٤٨١.
(٢٠) انظر: تفسير الطبري (٩٨٣٠): ص ٨/ ٤٨١ - ٤٨٢.
(٢١) انظر: تفسير الطبري (٩٨٢٨): ص ٨/ ٤٨١.
(٢٢) تفسير الطبري: ٨/ ٤٨٢.
(٢٣) تفسير السمعاني: ١/ ٤٣٧.
(٢٤) سنن ابن ماجه برقم (٩٠٦).
(٢٥) انظر: المنهاج في شعب الإيمان: ١٠٣ - ١٠٤.
(٢٦) التفسير الميسر: ٨٧.
(٢٧) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ٣٨٠.
(٢٨) تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٣٦.
(٢٩) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (٥٤٨٤): ص ٣/ ٩٨١.

<<  <  ج: ص:  >  >>