للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٥ - أن من ادعى الإيمان بالله واليوم الآخر ولكنه لا يرد مسائل النزاع إلى الله ورسوله فإنه كاذب؛ لأن قوله: {إِنْ كُنْتُمْ} بمنزلة التحدي، فيكون كاذباً فيما يدعي، وقد قال الله تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: ٦٥]

القرآن

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٦٠)} [النساء: ٦٠]

التفسير:

ألم تعلم -أيها الرسول- أمر أولئك المنافقين الذين يدَّعون الإيمان بما أُنزل إليك -وهو القرآن- وبما أُنزل إلى الرسل من قبلك، وهم يريدون أن يتحاكموا في فَصْل الخصومات بينهم إلى غير ما شرع الله من الباطل، وقد أُمروا أن يكفروا بالباطل؟ ويريد الشيطان أن يبعدهم عن طريق الحق، بعدًا شديدًا.

في سبب نزول الآية أقوال:

أحدها: أخرج الطبري، وابن المنذر (١)، والواحدي (٢)، عن عامر، قال: "كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود، لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين، لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة. فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جُهَيْنة، فأنزل الله فيه هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، حتى بلغ {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (٣) " (٤).

وفي السياق نفسه أخرج الطبري وابن ابي حاتم (٥)، عن اسباط عن السدي (٦)، قال: " كان ناس من اليهود قد أسلموا ونافق بعضهم. وكانت قُرَيظة والنَّضير في الجاهلية، إذا قُتِل الرجل من بني النضير قتلته بنو قريظة، قتلوا به منهم. فإذا قُتِل الرجل من بني قريظة قتلته النضير، أعطوْا ديتَه ستين وَسْقًا من تمر. فلما أسلم ناس من بني قريظة والنضير، قتل رجلٌ من بني النضير رجلا من بني قريظة، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النضيري: يا رسول الله، إنا كنا نعطيهم في الجاهلية الدية، فنحن نعطيهم اليوم ذلك. فقالت قريظة: لا ولكنا إخوانكم في النسب والدين، ودماؤنا مثل دمائكم، ولكنكم كنتم تغلبوننا في الجاهلية، فقد جاء الله بالإسلام! فأنزل الله يُعَيِّرهم بما فعلوا فقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [سورة المائدة: ٥٤]، فعيَّرهم، ثم ذكر قول النضيري: " كنا نعطيهم في الجاهلية ستين وسقًا، ونقتل منهم ولا يقتلونا "، فقال {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [سورة المائدة: ٥٠]. وأخذ النضيري فقتله بصاحبه، فتفاخرت النضير وقريظة، فقالت النضير: نحن أكرم منكم! وقالت قريظة: نحن أكرم منكم! ودخلوا المدينة إلى أبي بُرْدة، الكاهن الأسلمي، فقال المنافق من قريظة والنضير: انطلقوا إلى أبي بردَة ينفِّر بيننا! " (٧).

وفي المعنى نفسه، أخرج ابن ابي حاتم عن ابن عباس: " كان أبو بردة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود، فتنافروا إليه أناس من أسلم من اليهود فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} " (٨).

والثاني: أخرج الطبري عن عطية العوفي عن ابن عباس في قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}، قال: " و {الطَّاغُوتِ}: رجل من اليهود كان يقال له: كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا، بل نحاكمكم إلى كعب! فذلك قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ}، الآية" (٩). وروي عن مجاهد (١٠)، والربيع بن انس (١١)، والضحاك (١٢) نحو ذلك.


(١) انظر: تفسير ابن المنذر (١٩٤٢): ص ٢/ ٧٦٩.
(٢) انظر: أسباب النزول: ١٦١ - ١٦٣.
(٣) [سورة النساء: ٦٥].
(٤) تفسير الطبري (٩٨٩١): ص ٨/ ٥٠٨.
(٥) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٥٤٩): ص ٣/ ٩٩ - ٩٩٢.
(٦) رواية أسباط بن نصر عن السدي، سنده ضعيف جداً؛ فيه علتان:
الأولى: الإعضال.
الثانية: أسباط؛ صدوق كثير الخطأ، يُغْرب.
(٧) تفسير الطبري (٩٨٩٦): ص ٨/ ٥١٠.
(٨) تفسير ابن أبي حاتم (٥٥٤٧): ص ٣/ ٩٩١.
(٩) تفسير الطبري (٩٨٩٧): ص ٨/ ٥١١.
(١٠).انظر: تفسير الطبري (٩٨٩٨): ص ٨/ ٥١١ - ٥١٢
(١١).انظر: تفسير الطبري (٩٨٩٩): ص ٨/ ٥١٢.
(١٢).انظر: تفسير الطبري (٩٩٠٢): ص ٨/ ٥١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>