للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثاني: توبته على عبده بقبولها وإجابتها ومحو الذنوب بها؛ فإنَّ التوبة النصوح تجب ما قبلها.

واسم «الرحيم» من أسمائه تعالى، يتضمن صفة الرحمة التي تعم عباده المؤمنين فحسب بأن هداهم إلى الإيمان في الدنيا، وهو يثيبهم في الآخرة الثواب الدائم الذي لا ينقطع، إذ يقول سبحانه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: ٤٣].

القرآن

{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)} [النساء: ٦٥]

التفسير:

أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة أن هؤلاء لا يؤمنون حقيقة حتى يجعلوك حكمًا فيما وقع بينهم من نزاع في حياتك، ويتحاكموا إلى سنتك بعد مماتك، ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقًا مما انتهى إليه حكمك، وينقادوا مع ذلك انقيادًا تاماً، فالحكم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة في كل شأن من شؤون الحياة من صميم الإيمان مع الرضا والتسليم.

في سبب نزول الآية أقوال:

أحدها: تقدم قبل هذا النقل عمن قال: إنها نزلت في تحاكم إلى الكاهن، وهو ظاهر السياق، فإن الآيات المذكورة متعاطفة بعضها على بعض، وأولها قصة المتحاكمين، على الاختلاف في ذلك (١).

عن مجاهد " {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم}، إلى {فلا وربك لا يؤمنون}، حتى قوله: {ويسلموا تسليما} هذا في الرجل اليهودي والرجل المسلم، اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف " (٢).

والثاني: أخرج أحمد (٣)، والبخاري (٤)، ومسلم (٥)، وغيرهم (٦)، عن عروة بن الزبير: " أن الزبير كان يحدث؛ أنه خاصم رجلا من الأنصار، قد شهد بدرا، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في شراج من الحرة، كانا يسقيان به كلاهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله، آن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اسق، ثم احبس، حتى يبلغ الجدر، فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ حقه للزبير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، أشار على الزبير برأي، سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم، استوعى للزبير حقه في صريح الحكم.

قال عروة: قال الزبير: والله، ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} الآية".

والثالث: أخرج ابن ابي حاتم، وابن مردوية (٧)، عن عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود قال: "اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، انطلقا إلى عمر، فلما أتيا عمر قال الرجل: يا ابن الخطاب قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا، فقال: ردنا إلى عمر فردنا إليك. قال: أكذلك؟ قال: نعم، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما، فخرج إليهما، مشتملا على سيفه فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر فارا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، قتل عمر والله صاحبي ولو ما أني أعجزته لقتلني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمنين، فأنزل الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما


(١) انظر: العجاب: ٢/ ٩٠٥.
(٢) أخرجه ابن المنذر (١٩٥٩): ص ٢/ ٧٧٦.
(٣) المسند (١٤١٩): ص ١/ ١٦٥، و (١٦٢١٥): ص ٤/ ٤.
(٤) صحيح البخاري (٢٧٠٨): ص ٣/ ٢٤٥، و (٣٣٥٩)، (٣٣٦٠)، (٢٣٦١)، و (٢٣٦٢): ص ٣/ ١٤٥ - ١٤٦، و (٤٥٨٥): ص ٦/ ٥٨.
(٥) صحيح المسلم (٦١٨٣): ص ٧/ ٩٠.
(٦) أخرجه كذلك عبد بن حميد (٥١٩)، وأبو داود (٣٦٣٧)، وابن ماجة (١٥)، و (٢٤٨٠)، والترمذي (١٣٦٣)، و (٣٠٢٧)، والنسائي ٨/ ٢٤٥، و ٨/ ٢٣٨، وفي الكبرى (٥٩٢٥)، و (٥٩٢٦)، والبزاز في مسنده ٣/ ١٨٤، وابن حبان في الإحسان باب الاعتصام بالسنة: (٢٤): ص ١/ ٢٠٣ - ٢٠٤، والطبري في تفسيره (٩٩١٢): ص ٨/ ٥١٩ - ٥٢٠، وابن ابي حاتم (٥٥٥٨): ص ٣/ ٩٩٣ - ٩٩٤.
(٧) انظر: لباب النقول: ٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>