للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أخرج ابن المنذر عن عبد الله بن مسعود، قال: " إن في النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها، قوله جل وعز: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما}، وذكر بقية الحديث " (١).

قوله تعالى: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: ٦٤]، " أي: "وسألت الله أن يغفر لهم ذنوبهم" (٢).

قال الطبري: أي: " وسأل لهم اللهَ رسولهُ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك [من الاستغفار] " (٣).

قال الزمخشري: أي: " وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك برد قضائك، حتى انتصبت شفيعا لهم إلى الله ومستغفرا" (٤).

ولم يقل: «واستغفرت لهم»، وعدل عنه إلى طريقة الالتفات، تفخيما لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما لاستغفاره، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان (٥).

قوله تعالى: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: ٦٤]، " أي: لعلموا كثرة توبة الله على عباده وسعة رحمته لهم" (٦).

قال الطبري: أي: " راجعًا لهم مما يكرهون إلى ما يحبون، {رحيمًا} بهم، في تركه عقوبتهم على ذنبهم الذي تابوا منه" (٧).

قال الزمخشري: أي: " لعلموه توابا، أى لتاب عليهم" (٨).

قال مجاهد: " عُنِي بذلك اليهوديُّ والمسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف" (٩).

قال ابن الجوزي: " زعم بعض منتحلي التفسير أن هذه الآية نسخت بقوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: ٨٠].

وهذا قول مرذول، لأنه إنما قيل {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} لإصرارهم على النفاق، فأما إذا جاءوا فاستغفروا واستغفر لهم الرسول، فقد ارتفع الإصرار فلا وجه للنسخ" (١٠).

ويجدر القول بانه لم يتعرض لدعوى النسخ في هذه الآية أصحاب أمهات كتب النسخ ولا المفسرون لضعف ذلك، وإنما ذكره ابن سلامة بدون نسبته إلى أحد (١١).

الفوائد:

١ - أوجب الله على الخلق كلهم متابعة الرسل قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}.

٢ - أن طاعة الأنبياء هداية ومعصيتهم ضلالة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، وقال تعالى بعد ذكره لبعض المرسلين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}، وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

٣ - وفي الآية إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأن الله أمر بطاعتهم مطلقا، فلولا أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ، لما أمر بذلك مطلقا.

٤ - أن «التَّوَّاب» من أسمائه تعالى، والكثير التَّوْب؛ بمعنى: الرجوع على عبده بالمغفرة وقبول التوبة، وتوبته سبحانه على عبده نوعان (١٢):

أحدهما: أنه يلهم عبده التوبة إليه، ويوفقه لتحصيل شروطها من الندم والاستغفار والإقلاع عن المعصية والعزم على عدم العود إليها واستبدالها بعمل الصالحات.


(١) تفسير ابن المنذر (١٩٥٦): ص ٢/ ٧٧٤ - ٧٧٥.
(٢) صفوة التفاسير: ٢٦٢.
(٣) تفسير الطبري: ٨/ ٥١٧.
(٤) الكشاف: ١/ ٥٢٨.
(٥) انظر: الكشاف: ١/ ٥٢٨.
(٦) صفوة التفاسير: ٢٦٢.
(٧) تفسير الطبري: ٨/ ٥١٧.
(٨) الكشاف: ١/ ٥٢٨.
(٩) تفسير الطبري: ٨/ ٥١٧. وانظر: الأثر (٩٩٠٧): ص ٨/ ٥١٧
(١٠) نواسخ القرآن: ٢/ ٣٧٥ - ٣٧٦.
(١١) في ناسخه ص: ٣٧ - ٣٨.
(١٢) انظر: صفات الله عزل وجل الواردة في الكتب والسنة: ١٠٧ - ١٠٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>