للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد اطرد هذا في السور المفتتحة بحروف التهجي، فحق لكل سورة منها ألا يناسبها غير الحروف المفتتحة بها، فلو وقع: {الم} في موضع {كهيعص} مثلاً، أو {طس} في موضع {حم} أو غير ذلك لم يصح لانعدام المناسبة التي يجب مراعاتها في كتاب الله - تعالى - (١).

وخلاصة القول أن عدم ورود النقل بأن لها معاني لا يدل على انتفاء ثبوت المعاني لها في نفس الأمر. فإن عدم الدليل في أذهاننا لا يلزم منه عدم المدلول في نفس الأمر، وهذا غاية في الوضوح؛ وأقرب دليل يذكر هو ما دل على أن كل ما في القرآن له معاني بالقطع واليقين، والحروف المقطعة من القرآن، فلها معاني قطعا ويقينا، والنقل يفتقر إليه في توضيح الغامضات، أما توضيح الجليات فلا يشترط في ذلك نقل، ومن الجليات أن جميع ما في القرآن له معاني في نفس الأمر.

ثم القول بأن للحروف المقطعة حكمة وسر، وبعد ذلك ننفي المعاني عنها كليا، ففيه من التناقض ما لا يخفى، إذ الحكمة والسر لا يكونان إلا في ضمن المعاني، فإثبات الحكمة والسر للحروف المقطعة هو عين إثبات المعاني لها، وجهلنا بالحكمة والسر هو جهل بالمعاني، والعكس صحيح.

فيمكن القول بأن الحروف المقطعة لها معاني خاصة، سميت أسرارا وحكما أو غير ذلك، ومن رحمة الله تعالى بنا أنه لم يكلفنا بإدراكها، بل نؤمن بتنزيلها وكونها كلام الله تعالى، ونفوض له سبحانه العلم بحقيقة ما أراد من معانيها، دون أن نزيغ بها إلى معاني باطلة كما وقع لبعض الإشراقيين والفلاسفة الإسلاميين، ودون أن نسلبها معانيها في نفس الأمر بحيث يلزم من ذلك ثبوت كلام لله تعالى لا مدلول له في نفس الأمر، تعالى كلام ربنا عن ذلك.

وهذا مرجع كلام الصحب الكرام رضوان الله تعالى عليهم (٢).

ولاشك بأن هذه الحروف للإعجاز، وإننا عندما نقول بذلك لا يعني أننا نقتصر على هذا القول، فقد يكون لنزولها حكم أخرى -كما أشرت اليه سابقا -وقد ذكر الذين ردوا هذا القول كالشيخ محمد شلتوت أن العرب قد عرفوا عجزهم عن الإتيان بمثله وسجله القرآن عليهم فليسوا بحاجة إلى مثل هذه الحروف. نقول: حقاً انهم قد عرفوا عجزهم عن ذلك ولكن ما المانع من تكرار تسجيل ذلك عليهم مرة تلو المرة حتى يستدعي ذلك انتباههم، وحتى يذكرهم بعجزهم وضعفهم، ثم إنك تجد من مدلولات هذا التكرار استمرارية التحدي، ألم تر أن االله تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، وكل ذلك لإظهار عجزهم مع انهم يعلمون من أنفسهم ذلك العجز. وهنا ضربٌ آخر لتبكيتهم وإظهار عجزهم، وهو أن يذكر هذه الحروف احتجاجاً عليهم، فإن فيها تنبيه على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف، فهم قادرون عليها، فكان واجب عليهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فعجزهم دال على أنه من عند االله. والله أعلم، وله الحمد في الأولى والآخرة.

جدول توزيع الحروف المقطعة في أوائل سور القرآن الكريم:

١ ... حروف ذات الحرف الواحد والتي لم تتكرر ... (ن)، (ق)، (ص).

٢ ... حروف ذات الحرفين والتي لم تتكرر ... (طس)، (يس)، (طه).

٣ ... حروف ذات الحرفين والتي تكررت ٧ مرات ... (حم).

٤ ... حروف ذات الثلاثة أحرف والتي تكررت مرتان فقط ... (طسم)

٥ ... حروف ذات الثلاثة أحرف والتي تكررت ٦ مرات ... (الم).

٦ ... حروف ذات الثلاثة أحرف والتي تكررت ٥ مرات ... (الر).


(١) تفسير الحروف المقطعة، د. محمد حسن أبو النجا (مصدر سابق).
(٢) يقول الطبري: "هي حروف يشتمل كل حرف منها على معاني شتى مختلفة" (انظر: تفسيره: ١/ ٢٠٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>