للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المعرفة بمواضع المصالح والمضار؛ ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء، في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: ٥] قال عامة علماء السلف: هم النساء والصبيان" (١).

والسفيه مكلف رغم أنه يسيء التصرف، وقد يكون تصرفه: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: ١٤٢]، ولعدم إيمانهم برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - سماهم الله تعالى بالسفهاء؛ كما ردَّ الله تعالى اتهامهم المسلمين بالسفهاء بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٣].

وأما سفه المشركين وترْكهم اتباعَ ملَّة إبراهيم - عليه السلام - فقد قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: ١٣٠]، قال الشيخ محمد جمال الدين القاسمي: هذا إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء مَن يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملَّة إبراهيم، وهو ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك تعريض بمُعاندي أهل الكتاب والمشركين؛ أي: لا يرغب عن ملته الواضحة الغراء إلا مَن سَفِه نفسه؛ أي: حملها على السفه، وهو الجهل، وقال الراغب: وسفه نفسه أبلغ من جهلها؛ وذاك أن الجهل ضربان: جهل بسيط، وهو ألا يكون للإنسان اعتقاد في الشيء، وجهل مركَّب، وهو أن يعتقد في الحق أنه الباطل، وفي الباطل أنه حق، والسفه: أن يعتقد ذلك ويتحرَّى بالفعل مقتضى ما اعتقده، فبيَّن تعالى أن مَن رغب عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لِسَفه نفسه، وذلك أعظم مذمة، فهو مبدأ كل نقيصة، وذاك أن من جهِل نفسه، جَهِل أنه مصنوع، وإذا جهِل كونه مصنوعًا، جهِل صانعه، وإذا لم يعلم أن له صانعًا، فكيف يعرف أمره ونهْيه، وما حُسنه وقُبحه! ولكون معرفتها ذريعةً إلى معرفة الخالق - جل ثناؤه، ، قال: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: ٢١]، وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر: ١٩] (٢).

الفوائد:

١ من فوائد الآية: أن المنافق لا تنفعه الدعوة إلى الخير؛ لقوله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء}؛ فهم لا ينتفعون إذا دعوا إلى الحق؛ بل يقولون: {أنؤمن كما آمن السفهاء)

٢ ومنها: إعجاب المنافقين بأنفسهم؛ لقولهم: (أنؤمن كما آمن السفهاء)

٣ ومنها: شدة طغيان المنافقين؛ لأنهم أنكروا على الذين عرضوا عليهم الإيمان: {قالوا أنؤمن}؛ وهذا غاية ما يكون من الطغيان؛ ولهذا قال الله تعالى في آخر الآية: {في طغيانهم يعمهون} [البقرة: ١٥].

٤ ومنها: أن أعداء الله يصفون أولياءه بما يوجب التنفير عنهم لقولهم: {أنؤمن كما آمن السفهاء}؛ فأعداء الله في كل زمان، وفي كل مكان يصفون أولياء الله بما يوجب التنفير عنهم؛ فالرسل وصفهم قومهم بالجنون، والسحر، والكهانة، والشعر تنفيراً عنهم، كما قال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} [الذاريات: ٥٢]، وقال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} [الفرقان: ٣١] وورثة الأنبياء مثلهم يجعل الله لهم أعداء من المجرمين، ولكن {وكفى بربك هادياً ونصيراً} [الفرقان: ٣١]؛ فمهما بلغوا من الأساليب فإن الله تعالى إذا أراد هداية أحد فلا يمنعه إضلال هؤلاء؛ لأن أعداء الأنبياء يسلكون في إبطال دعوة الأنبياء مَسْلكين؛ مسلك الإضلال، والدعاية الباطلة في كل زمان، ومكان؛ ثم مسلك السلاح. أي المجابهة المسلحة؛ ولهذا قال تعالى: {هادياً} [الفرقان: ٣١] في مقابل المسلك الأول الذي هو الإضلال. وهو الذي نسميه الآن بالأفكار المنحرفة، وتضليل الأمة، والتلبيس على عقول أبنائها؛ وقال تعالى: {ونصيراً} [الفرقان: ٣١] في مقابل المسلك الثاني. وهو المجابهة المسلحة.

٥ ومن فوائد الآية: أن كل من لم يؤمن فهو سفيه، كما قال الله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} [البقرة: ١٣٠].


(١) تفسير ابن كثير: ١/ ١٨٢.
(٢) ينظر: محاسن التأويل؛ محمد جمال الدين القاسمي: ١/ ١٥٦ ..

<<  <  ج: ص:  >  >>