للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢. ومنها: أنه إذا جاء الموت، فإن المؤمن يحب لقاء الله، لأنه قدّم أعماله الصالحة أمامه، وقد روي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ " (١).

القرآن

{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥)} [البقرة: ٩٥]

التفسير:

ولن يفعلوا ذلك أبدًا؛ لما يعرفونه من صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن كذبهم وافترائهم، وبسبب ما ارتكبوه من الكفر والعصيان، المؤَدِّيَيْن إلى حرمانهم من الجنة ودخول النار. والله تعالى عليم بالظالمين من عباده، وسيجازيهم على ذلك.

قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: ٩٥]، أي: " لن يتمنوه ما عاشوا" (٢).

قال الصابوني: "أي لن يتمنوا الموت ما عاشوا بسبب ما اجترحوه من الذنوب والآثام" (٣).

قال الواحدي: " وذلك أنهم كفروا، وعرفوا أنهم كَفَرة، ولا نصيب لهم في الجنة؛ لأنهم تعمدوا كتمانَ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبَه" (٤).

قال ابن عثيمين: " وذلك؛ لأنهم يعلمون كذب دعواهم أن لهم الدار الآخرة خالصة" (٥).

وفي تركهم إظهار التمني قولان (٦):

أحدهما: أنهم علموا أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، كما قاله النبي-صلى الله عليه وسلم-، فلذلك لم يتمنوه وهذا قول ابن عباس (٧).

الثاني: أن الله صرفهم عن إظهار التمني، ليجعل ذلك آية لنبيه-صلى الله عليه وسلم-. روي عن الحسن (٨) نحوه.

قوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: ٩٥]، " بما أسلفته أيديهم" (٩).

قال الآلوسي: " أي بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة للنار كالكفر بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والقرآن، وقتل الأنبياء" (١٠).

قال الواحدي: " أي: بما قدموه وعملوه، فأضاف ذلك إلى اليد، لأن أكثر جنايات الإنسان تكون بيده، فيضاف إلى اليد كل جناية، وإن لم يكن لليد فيها عمل، فيقال: هذا ما اجترحته يدك" (١١).

وقد ذكر أبو حيان في قوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: ٩٥]، وجهين من التفسير (١٢):

الأول: كناية عما اجترحوه من المعاصي السابقة. ونسب التقديم لليد مجازاً، والمعنى بما قدّموه، إذ كانت اليد أكثر الجوارح تصرفاً في الخير والشر. وكثر هذا الاستعمال في القرآن: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}.

والثاني: وقيل: المراد اليد حقيقة هنا، والذي قدّمته أيديهم هو تغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان ذلك بكتابة أيديهم.

قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: ٩٥]، "أي عالم بظلمهم وإِجرامهم وسيجازيهم على ذلك" (١٣).

روي عن ابن عباس في قوله {ِالظَّالِمِينَ}، قال: "الكافرين" (١٤).

وذكروا في تفسير قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: ٩٥]، وجهين (١٥):

أحدهما: أن هذه جملة خبرية، ومعناها: التهديد والوعيد، وعلم الله متعلق بالظالم وغير الظالم. فالاقتصار على ذكر الظالم يدل على حصول الوعيد.

والثاني: معناه مجازيهم على ظلمهم، فكنى بالعلم عن الجزاء.

قال ابن عاشور: وقوله تعالى {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، "خبر مستعمل في التهديد لأن القدير إذا علم بظلم الظالم لم يتأخر عن معاقبته" (١٦) ومن ذلك قول زهير (١٧):

فَلا تَكْتُمُنَّ اللهَ مَا فِي نُفُوسِكُمْ ... لِيَخْفَى وَمَهْمَا يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ

يقول: لا تخفوا من الله ما تضمرون من الغدر ونقض العهد ليخفى على الله، ومهما يكتم من شيء يعلمه الله، يريد أن الله عالم بالخفيات والسرائر ولا يخفى عليه شيء من ضمائر العباد، فلا تضمروا الغدر ونقض العهد فإنكم إن أضمرتموه علمه الله؛ وقوله: يكتم الله، أي يكتم من الله.

قال أبو حيان: " وإنما ذكر الظالمين، لأن الظلم هو تجاوز ما حدّ الله، ولا شيء أبلغ في التعدّي من ادعاء خلوص الجنة لمن لم يتلبس بشيء من مقتضاتها، وانفراده بذلك دون الناس" (١٨).

قال ابن عطية: " وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، ظاهرها الخبر ومضمنها الوعيد، لأن الله عليم بالظالمين وغيرهم، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد" (١٩).

الفوائد:

١. من فوائد الآية: أنَّ الكافر يكره الموت لما يعلم من سوء العاقبة؛ لقوله تعالى: {بما قدمت أيديهم}.

٢. ومنها: إثبات السببية. تؤخذ من الباء في قوله تعالى: {بما قدمت أيديهم}.

٣. منها: إثبات علم الله تعالى للمستقبل؛ لقوله تعالى: {ولن يتمنوه أبداً}؛ فوقع الأمر كما أخبر به ..

٤. ومنها: جواز تخصيص العموم لغرض؛ لقوله تعالى: {والله عليم بالظالمين} فخص علمه بالظالمين تهديداً لهم.

القرآن


(١) صحيح البخاري (٦٠٦٢).
(٢) روح المعاني: ١/ ٣٢٨.
(٣) صفوة التفاسير: ١/ ٧٠.
(٤) التفسير البسيط: ٣/ ١٦٤.
(٥) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٣٠٧.
(٦) انظر: النكت والعيون: ١/ ١٦٢.
(٧) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (٩٤٠): ص ١/ ١٧٧.
(٨) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (٩٤١): ص ١/ ١٧٨.
(٩) انظر: تفسير الطبري: ٢/ ٣٦٧.
(١٠) روح المعاني: ١/ ٣٢٨.
(١١) التفسير البسيط: ٣/ ١٦٤.
(١٢) انظر: البحر المحيط: ١/ ٢٦٨.
(١٣) صفوة التفاسير: ١/ ٧٠.
(١٤) أخرجه ابن أبي حاتم (٩٤٣): ص ١/ ١٧٨.
(١٥) انظر: البحر المحيط: ١/ ٢٦٨.
(١٦) تفسير ابن عاشور: ١/ ٦١٦.
(١٧) ديوانه: ١٨، وشرح القصائد: ٢٦٦.
يقول الشاعر: لا تخفوا من الله ما تضمرون من الغدر ونقض العهد ليخفى على الله، ومهما يكتم من شيء يعلمه الله، يريد أن الله عالم بالخفيات والسرائر ولا يخفى عليه شيء من ضمائر العباد، فلا تضمروا الغدر ونقض العهد فإنكم إن أضمرتموه علمه الله؛ وقوله: يكتم الله، أي يكتم من الله
(١٨) البحر المحيط: ١/ ٢٦٨.
(١٩) المحرر الوجيز: ١/ ١٨١.

<<  <  ج: ص:  >  >>