للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٩٦)} [البقرة: ٩٦]

التفسير:

ولتعلمَنَّ -أيها الرسول- أن اليهود أشد الناس رغبة في طول الحياة أيًّا كانت هذه الحياة من الذلَّة والمهانة، بل تزيد رغبتهم في طول الحياة على رغبات المشركين. يتمنى اليهودي أن يعيش ألف سنة، ولا يُبْعده هذا العمر الطويل إن حصل من عذاب الله. والله تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وسيجازيهم عليها بما يستحقون من العذاب.

قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [البقرة: ٩٦]، "أي ولتجدنَّ اليهود أشدّ الناس حرصاً على الحياة، وأحرص من المشركين أنفسهم، وذلك لعلمهم بأنهم صائرون إِلى النار لإِجرامهم" (١).

قال ابن عباس: " وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة؛ وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي، بما ضيع مما عنده من العلم" (٢).

وقوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}، قيل: المعنى وأحرص، فحذف (من الذين أشركوا) لمعرفتهم بذنوبهم وألا خير لهم عند الله، ومشركو العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة ولا علم لهم من الآخرة، ألا ترى قول شاعرهم (٣):

تمتع من الدنيا فإنك فان ... من النشوات والنساء الحسان

وإنما قال: {عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: ٩٦] بالتنكير، لأنه حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي {على الحياة} (٤).

وذكروا في (الواو) في قوله تعالى: {وَمِنَ الذين أَشْرَكُوا} [البقرة: ٩٦]، ثلاثة أقول (٥):

أحدها: أنها (واو) عطف، والمعنى أن اليهود أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا كقولك: هو أسخى الناس ومن حاتم، وهذا قول الفراء والأصم.

فإن قيل: ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس؟ قلنا: بلى ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد وفيه توبيخ عظيم لأن الذين أشركوا ألا يؤمنون بالمعاد وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقيا باعظم التوبيخ، فإن قيل: ولم زاد حرصهم على حرص المشركين؟ قلنا: لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك.

القول الثاني: أنها (واو) استئناف، وقد تم الكلام عند قوله: "على حياة" (و) تقديره ومن الذين أشركوا أناس يود أحدهم على حذف الموصوف كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: ١٦٤].

القول الثالث: أن فيه تقديما وتأخيرا وتقديره: ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة، ثم فسر هذه المحبة بقوله: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} وهو قول أبي مسلم.

قال الرازي: " والقول الأول أولى لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر أن يكون المراد: ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم، إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا. والله أعلم (٦).


(١) صفوة التفاسير: ١/ ٧١.
(٢) أخرجه الطبري (١٥٩٠): ص ٢/ ٣٧١.
(٣) البيت لامريء القيس، انظر: ديوانه: ٨٧.
(٤) انظر: مفاتيح الغيب: ٣/ ٦٠٩.
(٥) انظر: مفاتيح الغيب: ٣/ ٦٠٩.
(٦) مفاتيح الغيب: ٣/ ٦٠٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>