للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصلاة والسلام: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" (١)؛ فإذاً يكون الله سبحانه وتعالى بدأ بالأخص فالأخص (٢).

الفوائد

١ - من فوائد الآية: فضيلة البيت الحرام من وجهين: أنه مثابة؛ وأمن، فقوله تعالى: {وَأَمْناً} استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحد في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: ٩٧] كأنه قال: آمنوا من دخل البيت. والصحيح إقامة الحدود في الحرم، وأن ذلك من المنسوخ، لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت، ويقتل خارج البيت. وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا؟ والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة. وقد أجمعوا أنه لو قتل في الحرم قتل به، ولو أتى حدا أقيد منه فيه، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه. وقال أبو حنيفة: من لجأ إلى الحرم لا يقتل فيه ولا يتابع، ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج. فنحن نقتله بالسيف، وهو يقتله بالجوع والصد، فأي قتل أشد من هذا. وفي قوله: "وأمنا" تأكيد للأمر باستقبال الكعبة، أي ليس في بيت المقدس هذه الفضيلة، ولا يحج إليه الناس، ومن استعاذ بالحرم أمن من أن يغار عليه (٣).

٢ - ومنها: ظهور رحمة الله؛ فإنه لما جعل هذا البيت مثابة، والناس لابد أن يرجعوا إليه رحمهم بأن جعله أمناً؛ وإنما أحلها الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ساعة من نهار للضرورة؛ وهي ساعة الفتح؛ ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس»؛ ثم أورد -صلى الله عليه وسلم- سؤالاً قال فيه: "فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" (٤)؛ والحكم لله العلي الكبير: أذِن للرسول في تلك الساعة؛ ولكنه لم يأذن لأحد بعده كما لم يأذن لأحد قبله؛ ولهذا نُهي عن حمل السلاح في الحرم حتى يبقى كل إنسان آمناً؛ ولما طعن ابن عمر رضي الله عنهما وهو على راحلته في منى طعنه أحد الخوارج بسنان الرمح في أخمص قدمه حتى لزقت قدمه بالركاب جاءه الحجاج يعوده، فقال الحجاج: لو نعلم من أصابك؟ ! فقال ابن عمر: أنت أصبتني! قال: وكيف؟ قال: "حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه، وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم" (٥)؛ وبهذا تعرف عظم جرم أولئك الذين يوقعون المخاوف بين المسلمين في مواسم الحج، وأنهم والعياذ بالله من أعظم الناس جرماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذا البلد آمناً في كل وقت؛ فكيف في وقت أداء مناسك الحج التي ما أُمِّن والله أعلم إلا لأجلها.

٣ - ومن فوائد الآية: أنه ينبغي أن يكون كل مكان مثابة للناس أمناً؛ ولهذا كره أهل العلم أن يحمل السلاح في المساجد؛ قالوا: لأن المساجد محل أمن؛ لكن إذا كان المراد من حمل السلاح حفظ الأمن كان مأموراً به.

٤ - ومنها: وجوب اتخاذ المصلى من مقام إبراهيم؛ لقوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى}؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب؛ فإن قلنا بأن المراد بالمقام جميع مناسك الحج فلا إشكال؛ لأن فيه ما لا يتم الحج إلا به كالوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة؛ ومنه ما يصح الحج بدونه مع وجوبه كالمبيت بمزدلفة، ورمي الجمرات؛ ومنه ما يصح الحج بدونه وليس بواجب، كصلاة الركعتين بعد الطواف على المشهور؛ وإذا قلنا: المراد به الركعتان بعد الطواف صار فيه إشكال: فإن جمهور العلماء على أنهما سنة؛ وذهب الإمام مالك إلى أنهما واجبتان؛ والذي ينبغي للإنسان: أن لا يدعهما؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر الآية بهما، حيث تقدم إلى مقام إبراهيم بعد الطواف، فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}.

٥ - ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يثيب العامل بأكثر من عمله؛ فإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لما أتم الكلمات جعله الله تعالى إماماً للناس، وأمر الناس أن يتخذوا من مقامه مصلًّى؛ وهذا بعض من إمامته.

٦ - ومنها: وجوب تطهير البيت من الأرجاس الحسية، والمعنوية؛ لقوله تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا}؛ والعهد هو الوصية بالأمر الهام؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: ٢٨]؛ ولهذا لا يجوز للمشركين وغيرهم من أهل الكفر أن يدخلوا أميال الحرم؛ لأنهم إذا دخلوها قربوا من المسجد الحرام والله تعالى يقول: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: ٢٨].

٧ - ومن فوائد الآية: اشتراط طهارة مكان الطواف؛ لقوله تعالى: {للطائفين}.

٨ - ومنها: اشتراط طهارة لباس الطائفين من باب أولى، وأنه لا يجوز أن يطوف بثوب نجس؛ لأن ملابسة الإنسان للثياب ألصق من ملابسته للمكان.

٩ - ومنها: أن الطواف لا يكون إلا حول الكعبة؛ لقوله تعالى: {وطهرا بيتي للطائفين}؛ ولهذا قال العلماء: يشترط لصحة الطواف أن يكون في المسجد الحرام، وأنه لو طاف خارج المسجد ما أجزأه؛ فلو أراد الإنسان مثلاً أن يطوف حول المسجد الحرام من خارج فإنه لا يجزئ؛ لأنه يكون حينئذ طائفاً بالمسجد لا بالكعبة؛ أما الذين يطوفون في نفس المسجد سواء فوق أو تحت، فهؤلاء يجزئهم الطواف؛ وعلى هذا يجب الحذر من الطواف في المسعى، أو فوقه؛ لأن المسعى ليس من المسجد؛ إذ لو كان من المسجد لكانت المرأة إذا حاضت بعد الطواف لا تسعى؛ لأنه يلزم من سعيها أن تمكث في المسجد.

١٠ - ومن فوائد الآية: فضيلة هذه العبادات الأربع: الطواف، والاعتكاف، والركوع، والسجود؛ وأن الركوع والسجود أفضل هيئة في الصلاة؛ فالركوع أفضل هيئة من القيام؛ والسجود أفضل منه؛ والقيام أفضل من الركوع، والسجود بما يُقرأ فيه؛ ولهذا نُهي المصلي أن يقرأ القرآن راكعاً، أو ساجداً؛ فإنَّ ذِكْر القيام كلام الله؛ وهو أفضل من كل شيء؛ وذكر الركوع والسجود هو التسبيح؛ وهو أقل حرمة من القرآن؛ ولذلك حل الذكر للجنب دون قراءة القرآن، ويجوز مس الورقات التي فيها الذكر بغير وضوء دون مس المصحف؛ فالله سبحانه وتعالى حكيم: جعل لكل ركن من أركان الصلاة ميزة يختص بها؛ فالقيام اختصه بفضل ذكره؛ والركوع والسجود بفضل هيئتهما.

١١ - ومن الفوائد: جواز الصلاة في البيت فرضا كانت أو نفلا (٦) إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها، وهو خلاف قول مالك (٧) في امتناعه من جواز فعل الصلاة المفروضة في البيت، فإن قيل: لا نسلم دلالة الآية على ذلك، لأنه تعالى لم يقل: والركع السجود في البيت، وكما لا تدل الآية على جواز فعل الطواف في جوف البيت، وإنما دلت على فعله خارج البيت، كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصلاة إلى البيت متوجها إليه، قلنا: ظاهر الآية يتناول الركوع والسجود إلى البيت، سواء كان ذلك في البيت أو خارجا عنه، وإنما


(١) سبق تخريجه ١/ ٣٤٤.
(٢) انظر: تفسير ابن عثيمين: ٢/ ١٩.
(٣) تفسير القرطبي: ٢/ ١١١.
(٤) أخرجه البخاري ص ١٢، كتاب العلم، باب ٣٧: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، حديث رقم ١٠٤، وأخرجه مسلم ص ٩٠٣ - ٩٠٤، كتاب الحج، باب ٨٢: تحريم مكة وتحريم صيدها ... ، حديث رقم ٣٣٠٤ [٤٤٦] ١٣٥٤.
(٥) أخرجه البخاري ص ٧٦، كتاب العيدين، باب ٩: ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم، حديث رقم ٩٦٦.
(٦) لأن ظاهر الآية يتناول الركوع والسجود إلى البيت سواء أكان ذلك في البيت أم خارجاً عنه. وهذا القول قول الحنفية والشافعية. انظر: فتح القدير لابن الهمام: ٢/ ١١٠، بدائع الصنائع للكاساني: ١/ ١١٥، المبسوط للسرخسي: ٢/ ٧٩، الأم للشافعي: ١/ ١٩٧، المهذب للشيرازي: ١/ ٦٧، روضة الطالبين للنووي: ١/ ٢١٤، مغني المحتاج للشربيني: ١/ ١٤٤ - ١٤٥.
(٧) وتبعه المالكية، وهو مذهب الحنابلة قالوا: لأن الله-عز وجل-يقول: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: ١٤٤]، والمصلي في الكعبة لا يكون مستقبلاً للبيت كله؛ لأن بعض البيت يكون خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا تصح. انظر: مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب: ١/ ٥١٠ - ٥١١، التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق-بحاشية مواهب الجليل-: ١/ ٥١٠، بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك للصاوي: ١/ ٢٢٦، المغني لابن قدامة: ٢/ ٤٧٥ - ٤٧٦، كشاف القناع للبهوتي: ١/ ٣٥٤، الإنصاف للمرداوي: ١/ ٤٩٦. والأظهر جواز صلاة النفل والفرض داخل الكعبة لظاهر الآية، ولثبوت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين داخل الكعبة في فتح مكة، كما في حديث ابن عمر عن بلال-رضي الله عنهم-الذي أورده البخاري في صحيحه-فتح-: ٣/ ٥٤١ رقم: ١٥٩٨، ولأن الأصل تساوي الفرض والنفل في جميع الأحكام ولا فرق بينهما إلا بدليل. ولأن معنى (شَطْرَ الْمَسْجِدْ) في الآية جهته وهذا يشمل استقبال جميع الكعبة أو جزء منها كما فسرت ذلك السنة بصلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة. وانظر في المسألة: الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين: ٢/ ٢٤٩ - ٢٥٢، بداية المجتهد لابن رشد: ١/ ٢١٠ - ٢١١، الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي: ١/ ٦٠٢ - ٦٠٤، أحكام القرآن لإلكيا الهراس: ١/ ٤٠، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ٢/ ١١٥ - ١١٦، مفاتيح الغيب للرازي: ٤/ ٥٧ - ٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>