للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فاعتَبر الخيارَ في الجاهلية، وليس ذلك لأمرٍ يتعلق بالدين فإنه لا دينَ في الجاهلية؛ بل المرادُ بخِيار أهل الجاهلية مَنْ كان منهم مِنْ أهل الشرف وفي البيوت الرفيعة؛ فإن هذا أمرٌ يَجذِبُ بطبع صاحبه إلى معالي الأمور، ويحولُ بينه وبين الرذائل، ويُوجِبُ عليه إذا دخل في أمرٍ أن يكونَ منه في أعلى محلٍّ وأرفع رتبةٍ، فمُتعلِّمُ العلمِ منهم يكونُ في أهله على أتمِّ وصفٍ وأحسنِ حال، غيرَ شامخٍ بأنفه، ولا مُتباهٍ بما حصَّله، ولا مترفِّعٍ على الناس بما نال منه.

وأما مَنْ كان من سَقَط المتاع، وسفسافِ أهل المهن كأهل الحياكة والعِصارة والقضابة (١)، ونحو ذلك من المهن الدنيَّةِ والحِرَف الوضيعة، فإن نفسه لا تفارقُ الدناءة، ولا تجانِبُ السقوط، ولا تأبى المهانة (٢)، ولا تنفرُ عن الضيم (٣).

فإذا اشتَغل مشتغلٌ منهم بطلب العلم، ونال منه بعض النَّيل، وقع في أمور:

١ - منها: العُجبُ والزَّهْوُ والخُيَلاء؛ لأنه يرى نفسه بعد أن كان في أوضعِ مكانٍ وأخسِّ رتبةٍ قاعدًا في أعلى محل، وأرفعِ موضع؛ فإن منزلةَ


(١) القضابة: مهنة بيع العلف للبهائم. من بعض المطبوعات.
(٢) المهانة: الحقارة.
(٣) جاء في بعض المطبوعات: رغم أن كلام الشوكانى هنا يفيد التعميم، إلا أنه سيستثني بعضَ الأفراد من هذا الحكم العام، فهو يقول بعد ذلك بقليل: «ومن أنكر هذا، فعليه، بالاستقراء والتتبع، فإنه سيجدُ ما وجدناه، ويقفُ على صحة ما حكيناه، ولا يخرج من هؤلاء إلا النادر القليل، ولا يكون ذلك إلا لعرقٍ ينزعُه إلى الشرف ويجذبُه إلى الخير في سلفه القديم، وإن جَهِله مَنْ لم يعرفه». ولا شكَّ أن الكثيرين يختلفون مع الشوكانى في هذا الرأي استنادًا على كثير من الشواهد التاريخية.

<<  <   >  >>