للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العلمِ وأهلِه هي المنزلةُ التي لا تُساميها منزلةٌ وإن عَلَت، ولا تساويها رتبةٌ وإن ارتفعت.

فبينما ذلك الطالبُ قاعدٌ بين أهل حِرفته من أهل الحياكة، أو الحجامة، أو الجزارة، أو نحوهم، في أخسِّ بقعةٍ، وأعظمِ مهانةٍ؛ إذ صار بين العلماء المعلِّمين الذين هم في أعلى منازلِ الدنيا والدين؛ فبمجرَّد ذلك يحصُلُ له من العُجبِ والتطاول على الناس والترفُّعِ عليهم ما يَعظُم به الضررُ على أهل العلم فضلًا عن غيرهم ممن هو دونَهم، مع ما ينضمُّ إلى ذلك مِنْ السُّخف الذي نشأ عليه، وتلقَّاه من سَلَفِه، وسقوطِ النفس، وضعفِ العقل، ونَذالةِ الهمَّة، ومثل تأثُّر الصبيِّ بما ينشأ عليه من أخلاق آبائه؛ [وهذا] لا ينكره أحد.

ولهذا يقولُ فيما صح عنه في «الصحيح»: «كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرة، ولكنْ أبواهُ يُهوِّدانِه، ويُنصِّرانِه، ويُمجِّسانه» (١)؛ فإذا كان الصغيرُ ينطبع بطابع الكفر بسبب أبويه، فما بالُك بسائر الأخلاق التي يجدهم عليها؟!.

ومما يقع فيه هذا الطالبُ الناشئُ بين أهل الوضاعة، المرتضِعُ من ثدي الرَّقاعة (٢): أنه بحُكم الطبع وإلْفِ المنشأ لا يرى في الناس إلَّا أهل حرفته وبَنِي مِهْنته؛ فيعودُ من حيث بدأ، ويرجعُ من الباب الذي خرج منه، فيكون في ذلك منَ الإهانةِ للعلم، والإزراءِ على أهله، والوضعِ بجانبهم ما لا يُقادَرُ قَدرُه؛ لأن هذا يراهُ الناسُ تارةً في المدارس قاعدًا بين أيدي شيوخ العلم مشاركًا للمتعلِّمين، وتارةً يرَونه في دكاكين الحجَّامين وحوانيت العطارين، ومَن جرى هذا المجرى منَ المحترفين.


(١) صحيح: وقد تقدم ص (٣٢).
(٢) الرَّقاعة: الحمق والسفاهة.

<<  <   >  >>