للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


=عُلم بالتجارِب والخِبرةِ الساريةِ في العالَم من أول الدنيا إلى اليوم أن العقول غيرُ مستقلَّةٍ بمصالحها استجلابًا لها، أو مفاسدِها استدفاعًا لها؛ لأنها [أي المصالح] إما دنيوية، أو أخروية.
١ - فأما الدنيوية: فلا تستقلُّ [العقول] بإدراكها على التفصيل ألبتة؛ لا في ابتداءِ وضعها أولًا، ولا في استدراك ما عسى أن يَعرِضَ في طريقها [ثانيًا] إما في السوابق، وإما في اللواحق؛ لأن وضعها أولًا لم يكن إلَّا بتعليم اللَّه تعالى؛ لأن آدم لمَّا أُنزل إلى الأرض، عُلِّم كيف يَستجلب مصالح دنياه إذ لم يكن ذلك من معلومه أولًا؛ إلا على قول من قال: إن ذلك داخلٌ تحت مقتضى قول اللَّهِ تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١]، وعند ذلك يكون تعليمًا غير عقلي، ثم توارثته ذريَّتُه كذلك في الجملة، لكن فرَّعت العقولُ من أصولها تفريعًا، تتوهَّمُ استقلالَها به، ودخل في الأصول الدواخل حسبما أَظهرت ذلك أزمنةُ الفترات؛ إذ لم تَجرِ مصالحُ الفترات على استقامة؛ لوجود الفتن والهَرْج، وظهورِ أوجُهِ الفساد؛ فلولا أنْ منَّ اللَّهُ على الخلْق ببعثة الأنبياء، لم تستقِم لهم حياة، ولا جرت أحوالُهم على كمال مصالحهم، وهذا معلومٌ بالنظر في أخبار الأولين والآخرين.
٢ - وأما المصالحُ الأُخروية: فأبعدُ عن مجاري العقول مِنْ جهة وضع أسبابها، وهي العباداتُ مثلًا؛ فإن العقل لا يَشعرُ بها على الجملة فضلًا عن العلم بها على التفصيل، ومن جهةِ تصوُّر الدار الأخرى، وكونِها آتيةً؛ وأنها دارُ جزاء على الأعمال؛ فإن الذي يُدرِكُ العقلُ من ذلك مجردُ الإمكان إن شَعَر به.
ولا يغترَّنَّ ذو الحِجى بأحوال الفلاسفة المدَّعين لإدراك الأحوال الأُخرويَّة بمجرد العقل قبل النظر في الشرع؛ فإن دعواهم بألسنتهم في المسألة بخلاف ما عليه الأمرُ في نفسه؛ لأن الشرائع لم تزَل واردةً على بني آدم من جهة الرسل، والأنبياءُ أيضًا لم يزالوا موجودين في العالَم وهم أكثر [من الرسل]، وكلُّ ذلك من لدُن آدم إلى أن انتهت بِهذه الشريعة المحمدية.
غير أن الشريعة كانت إذا أخذت في الدروس، بَعث اللَّهُ نبيًّا من أنبيائه يبيِّنُ للناس ما خُلقوا لأجله، وهو التعبُّد للَّه؛ فلابد أن يبقى من الشريعة المفروضة ما بين زمانِ أخذها في الاندراس، وبين إنزال الشريعة بعدها بعضُ الأصول المعلومة، فأتى الفلاسفةُ إلى تلك الأصول، فتلقَّفوها أو تلقَّفوا منها ما أرادوا أن يُخرجوه على مقتضى عقولهم، وجعلوا ذلك عقليًّا لا شرعيًّا! وليس الأمرُ كما زعموا، فالعقلُ غير مستقلٍّ ألبتة، ولا ينبني على غير أصل، وإنما ينبني على أصلٍ متقدمٍ مسلَّمٍ على الإطلاق، ولا يمكن في أحوال الآخرة تصوُّرُ أصلٍ مسلَّمٍ إلَّا من طريق الوحي» انتهى. «الاعتصام» (١/ ٥٧: ٥٩ ط: دار التوحيد)، وانظر: «رسائل في الأديان والفرق»، للشيخ الجليل محمد بن إبراهيم الحمد (١٣ ط: دار ابن خزيمة).

<<  <   >  >>