للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الفخرَ بالأنساب، والتحدثَ بما كان للسلف من الأحساب يَجِدُون فيه من اللذةِ ما لا يجدونه في تعدُّدِ مناقبِ أنفسهم، ويزدادُ هذا بزيادةِ شرفِ النفس، وكرمِ العُنصر (١)، ونَبالةِ الآباء؛ ولكن ليس منَ المحمودِ أن يَبلغَ بصاحبهِ إلى التعصُّبِ في الدين، وتأثيرِ (٢) الباطل على الحق؛ فإن اللذةَ التي يطلبُها، والشرفَ الذي يريده قد حصل له بكونِه مِنْ سَلَف ذلك العالِم، ولا يَضيرُه أن يترك التعصبَ له، ولا يمحقُ عليه شرفَه؛ بل التعصبُ مع كونه مفسدًا للحظ الأخروي يُفسد عليه أيضًا الحظ الدنيوي؛ فإنه إذا تعصَّب لسلفه بالباطل، فلابد أن يَعرف كلُّ مَنْ له فهمٌ أنه متعصبٌ، وفي ذلك عليه مِنْ هدمِ الرفعة التي يريدها، والمَزِيَّةِ التي يطلبُها ما هو أعظمُ عليهِ وأشدُّ من الفائدة التي يطلبُها بكونِ له قريبٌ عالِم؛ فإنه لا ينفعه صلاحُ غيره مع فساد نفسه.

وإذا لم يَعتقد فيه السامعُ التعصبَ، اعتقد بلادةَ الفهم، ونقصانَ الإدراك، وضعفَ التحصيل؛ لأن الميلَ إلى الأقوال الباطلة ليس من شأن أهلِ التحقيق الذين لهم كمالُ إدراك، وقوةُ فهم، وفضلُ دراية، وصحةُ رواية؛ بل ذلك دأْبُ مَنْ ليست له بصيرةٌ نافذة، ولا معرفةٌ نافعة؛ فقد حَصل عليه بما تلذَّذ به وارتاح إليه من ذِكر شرف السلف ما حقَّق عند سامعه بأنه مِنْ خَلْف الخَلَف.

ولقد رأيتُ من أهل عصري في هذا عجبًا؛ فإن بعض من جَمَعني وإياه الطلبُ لعلوم الاجتهاد، يتعصبُ لبعض المصنِّفين من قرابته تعصبًا مُفرِطًا؛ حتى إنه إذا سمع من يعترضُ عليه، أو يستبعدُ شيئًا قاله، اضطرب، وتربَّد


(١) العُنصر: الأصل والمعدِن.
(٢) أي: تفضيل.

<<  <   >  >>