للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تلك الأمور التي جبُنتَ عند تصوُّرها، وفَرِقتَ (١) بمجردِ تخيُّلها، وهو: أنك لا تأتي الناس بغتةً، وتصكُّ وجوههم مكافحةً (٢) ومجاهرةً، وتنعَى عليهم ما هم فيه نعيًا صُراحًا، وتطلبُ منهم مفارقةَ ما ألِفوه طلبًا مضيَّقًا، وتقتضيه اقتضاءً حثيثًا (٣)؛ بل اسلُك معهم مسالكَ المتبصِّرين في جذب القلوب إلى ما يطلبُه اللَّهُ من عباده، ورغِّبْهم في ثواب المنقادين إلى الشرع، المؤثِرين للدليل على الرأي، وللحق على الباطل.

فإن كانوا عامةً، فهم أسرعُ الناس انقيادًا لك، وأقربُهم امتثالًا لِمَا تطلبُه منهم، ولستَ تحتاجُ معهم إلى كثيرِ مؤنة؛ بل اكتفِ معهم بترغيبهم في التعلُّم لأحكام اللَّه، ثم علِّمْهم ما علَّمَك اللَّهُ منها على الوجه الذي جاءت به الرواية، وصحَّ فيه الدليل، فهم يَقبلون ذلك منك قبولًا فطريًّا، ويأخذونه أخذًا خَلْقيًّا؛ لأن فطرتهم لم تتغيَّرْ بالتقليد، ولا تكدَّرت بالممارسة لعلم الرأي؛ ما لم يتسلَّط عليهم شيطانٌ من شياطين الإنس، قد مارَس علمَ الرأي، واعتقدَ أنه الحق، وأن غيره الباطل (٤)، وأنه لا سبيل للعامة إلى الشريعة إلا بتقليدِ مَنْ هو مقلِّدٌ له، واتباعِ من يتَّبِعُه؛ فإنه إذا تسلَّط على العامة مثلُ هذا، وسوس لهم كما يوسوس الشيطان، وبالغ في ذلك؛ لأنه يعتقدُ ذلك من الدين،


(١) فَرِقتَ: خِفتَ.
(٢) مكافحةً: وجهًا لوجه.
(٣) أي: تطلبُ منهم أن يفعلوه سريعًا.
(٤) والآن انظرْ إلى أحوال عوامِّ المسلمين! حين تلطَّخت قلوبُهم وعقولُهم بلَوْثاتِ المذاهب الضالةِ والأفكار الهدامة التي دعاهم إليها شياطينُ الإنس؛ خاصةً بعد أن غزت قلوبَهم الوسائلُ الإعلامية الفاسدة المفسدة مرئيةً ومسموعةً ومقروءةً، فصار إقناعُهم بأنَّ ما هم فيه شرٌّ وضلال، وردُّهم إلى رُشدهم من أصعب وأشقِّ الأمور على الدعاة، وقليلًا ما يقبلون، والمعصومُ من عصمه اللَّه.

<<  <   >  >>