للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ينظر في حال المحسود، فإن كان إنما نال الدنيا فقط، فهذا ينبغي أن يُرحم، لا أن يحسد، لأن الذي ناله في الغالب عليه، لا له، وهل فضول الدنيا إلا هموم. . . وبيان هذا، أن كثيرَ المال شديدُ الخوف عليه، وكثيرَ الجواري شديدُ الحذر عليهن، قوي الاهتمام بهنّ، أو لهن، والوالي خائف من العزل. ثم ليعلم أن النعم كثيرة الأكدار، ثم هي قليلة اللبث، والمصائب تردفها، فإن صاحب النعمة ينتظر زوالها، أو زواله عنها، ثم ليوقِن أن ما يحسد عليه المحسود ليس هو عند المحسود كما هو عند الحاسد، فإن الناس يظنون في أرباب المناصب أنهم في غاية اللذة، ولا يدرون أن الإِنسان يسمو إلى أمر فإذا ناله برد عنده وصار عادة له، فهو يسمو إلى ما هو أعلى منه. وهذا الحاسد يرى الأمر بعين الجدة والغبطة. وليعلم الحاسد أنه لو عاقبه المحسود لما ناله بأشدّ من الأذى الذي هو فيه، فإن لم ينتفع بشيءٍ من هذا العلاج فليسع في التسبب إلى مثل ما نال المحسود" (١).

فإذا تفكر الحاسد في علاج ابن الجوزي، وفهم حقيقة الدنيا ومتعها، وأنها لا تستحق منه أن يحسد غيره، لعاش مرتاحًا مطمئنًا، سليم القلب، خالي الفكر، راضي النفس، فحصل بذلك على سعادة الدارين.

٢ - وعلى الحاسد أن يستبدل الغبطة بالحسد وهي أن لا يحب زوال النعمة ولا يكره وجودها ودوامها، بل يتمنى لنفسه مثلها، وقد استشهد ابن الجوزي بقول الرسول - صلي الله عليه وسلم -: "لا حسد (٢) إلّا في اثنتين رجل آتاه الله


(١) المرجع السابق، ص ١٠٦.
(٢) معنى الحسد هنا: "وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة وأطلق الحسد عليها مجازًا، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة، فإن كان في الطاعة فهو محمود، ومنه (فليتنافس المتنافسون) وإن كان في المعصية فهو مذموم، ومنه "ولا تنافسوا" وإن كان في الجائزات فهو مباح، فكأنه قال في الحديث: لا غبطة أعظم -أو أفضل- من الغبطة في هذين الأمرين. مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الأول، ص ١٦٧، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، حديث رقم ٧٣.

<<  <   >  >>