للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَمْ يُرِدْ بِالْمَرَّتَيْنِ التثنية والتكرار كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ «١» أَيْ: كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، لَا كَرَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ التَّتَالِي الَّتِي يُرَادُ بِهَا التكرير، قَوْلُهُمْ:

لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَحَنَانَيْكَ، وهذا ذيك، وَدَوَالَيْكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مُنَاقِضٌ لِمَا قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمُخَالِفٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

أَمَّا مُنَاقَضَتُهُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، أَيِ: التَّطْلِيقُ الشَّرْعِيُّ تَطْلِيقَةٌ بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ عَلَى التَّفْرِيقِ. دُونَ الْجَمْعِ، وَالْإِرْسَالِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَقَوْلُهُ: تَطْلِيقَةٌ بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ مُنَاقِضٌ فِي الظَّاهِرِ لِقَوْلِ: وَلَمْ يُرِدْ بِالْمَرَّتَيْنِ التَّثْنِيَةَ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ضَرَبْتُكَ ضَرْبَةً بَعْدَ ضَرْبَةٍ، إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ضَرْبَتَيْنِ، وَهُوَ مُسَاوٍ فِي الدَّلَالَةِ لِقَوْلِكَ: ضَرَبْتُكَ ضَرْبَتَيْنِ، وَلِأَنَّ قَوْلَكَ: ضَرْبَتَيْنِ، لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُمَا إِلَّا ضَرْبَةً بَعْدَ ضَرْبَةٍ.

وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَيْسَ هَذَا مِنَ التَّثْنِيَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلتَّكْرِيرِ، لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّكْرِيرُ لَا يَقْتَضِي بِتَكْرِيرِهَا ثِنْتَيْنِ وَلَا ثَلَاثَ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى التَّكْرِيرِ مِرَارًا، فَقَوْلُهُمْ: لَبَّيْكَ، مَعْنَاهُ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ فَمَا زَادَ، وَكَذَلِكَ أَخَوَاتُهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: كَرَّتَيْنِ، مَعْنَاهُ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ مِرَارًا كَثِيرَةً وَالتَّثْنِيَةُ فِي قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا شَفْعُ الْوَاحِدِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي التَّثْنِيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ هُنَا بِقَوْلِهِ: مَرَّتَانِ، مَا يَزِيدُ عَلَى الثِّنْتَيْنِ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ هِيَ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ؟ وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدُ:

فَإِنْ طَلَّقَها أَيْ: فَإِنْ سَرَّحَهَا الثَّالِثَةَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَيْسَ قَوْلُهُ: مَرَّتَانِ دَالًّا عَلَى التَّكْرَارِ الَّذِي لَا يَشْفَعُ، بَلْ هُوَ مُرَادٌ بِهِ شَفْعُ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا غَرَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي ذَلِكَ صَلَاحِيَةُ التَّقْدِيرِ بِقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ الشَّرْعِيُّ تَطْلِيقَةٌ بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ، فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّثْنِيَةِ الَّتِي لَا يشفع الْوَاحِدَ، وَمُرَادٌ بِهَا التَّكْثِيرُ. إِلَّا أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَصْلَ شَفْعُ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ التَّثْنِيَةَ الَّتِي لَا تَشْفَعُ الْوَاحِدَ وَيُرَادُ بِهَا التَّكْرَارُ لَا يُقْتَصَرُ بِهَا عَلَى الثَّلَاثِ فِي التَّكْرَارِ، وَلَمَّا حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَرَّتَيْنِ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّثْنِيَةِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّكْرِيرُ، احْتَاجَ أَنْ يَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ عَلَى أَنَّهُ تَخْيِيرٌ لَهُمْ، بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُطَلِّقُونَ، بَيْنَ أَنْ يُمْسِكُوا النِّسَاءَ بِحُسْنِ الْعِشْرَةِ والقيام بمواجبهنّ، وَبَيْنَ أَنْ يُسَرِّحُوهُنَّ السَّرَاحَ الْجَمِيلَ الَّذِي عَلَّمَهُمْ.

وَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فيه قولان للسلف.


(١) سورة الملك: ٦٧/ ٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>