للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ طَلَّقَها وَأَيْضًا لَوْ سَلَّمْنَا وُقُوعَ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ الْخُلْعُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ الْآيَةَ جَاءَتْ لِتَبْيِينِ حُكْمِ الْخُلْعِ، وَإِنْشَاءِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَكَوْنُهَا سِيقَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ فِي التِّلَاوَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُجُودِ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ إِلَّا لَوْ صَرَّحَ بِقَيْدٍ يَقْتَضِي تَأَخُّرَ الْخُلْعِ فِي الْوُجُودِ عَنْ وُجُودِ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ.

وَارْتِفَاعُ قَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مُتَأَخِّرًا تَقْدِيرُهُ: أَمْثَلُ وَأَحْسَنُ، وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ مُتَقَدِّمًا أَيْ: فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، وَجَوَّزَ فِيهِ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَالْوَاجِبُ إِمْسَاكٌ، وَ: بمعروف، وبإحسان، يَتَعَلَّقُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا يَلِيهِ مِنَ الْمَصْدَرِ، وَ: الْبَاءُ، لِلْإِلْصَاقِ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ صِفَةً لِمَا قَبْلَهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَقَالُوا: يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ نَصْبُ إِمْسَاكٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ، عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: فَأَمْسِكُوهُنَّ إِمْسَاكًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ سَرِّحُوهُنَّ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ.

وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً الْآيَةَ. سَبَبُ النُّزُولِ

أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَكَانَتْ تُبْغِضُهُ وَهُوَ يُحِبُّهَا، فَشَكَتْهُ إِلَى أَبِيهَا فَلَمْ يَشْكُهَا، ثُمَّ شَكَتْهُ إِلَيْهِ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَبِهَا أَثَرُ ضَرْبٍ فَلَمْ يَشْكُهَا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَتْهُ إِلَيْهِ وَأَرَتْهُ أَثَرَ الضَّرْبِ، وَقَالَتْ: لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ لَا يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَهُ شَيْءٌ، وَاللَّهِ لَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ، لَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ مَا أُطِيقُهُ بُغْضًا، إِنِّي رَفَعْتُ جَانِبَ الْخِيَامِ فَرَأَيْتُهُ أَقْبَلَ فِي عِدَّةٍ وَهُوَ أَشَدُّهُمْ سَوَادًا، وَأَقْصَرُهُمْ قَامَةً، وَأَقْبَحُهُمْ وَجْهًا، فَقَالَ ثَابِتٌ: مَا لِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهَا بَعْدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ أَعْطَيْتُهَا حَدِيقَةً تَرُدُّهَا عَلَيَّ، وَأَنَا أُخَلِّي سَبِيلَهَا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَخَلَّى سَبِيلَهَا، وَكَانَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْإِمْسَاكَ بِمَعْرُوفٍ أَوِ التَّسْرِيحَ بِإِحْسَانٍ، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ مِنَ الإحسان أن لا يَأْخُذَ الزَّوْجُ مِنَ امْرَأَتِهِ شَيْئًا مِمَّا أَعْطَى وَاسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ قِصَّةَ الْخُلْعِ، فَأَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي الْآيَةِ، وَكَمَا قال اللَّهُ تَعَالَى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً «١» الْآيَةَ، وَالْخِطَابُ فِي: لكم،


(١) سورة: النساء: ٤/ ٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>