للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى ... نَاعِمَ الْبَالِ وَمَنْ شَاءَ أَضَلَّ

وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ فِعْلَهُ فَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّ ارادة غيره غيره مُؤَثِّرَةٍ، وَهُوَ تَعَالَى الْمُسْتَأْثِرُ بِسِرِّ الْحِكْمَةِ فِيمَا قَدَّرَ وَقَضَى مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَهُوَ فِعْلُهُ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مِنَ الْخُذْلَانِ وَالْعِصْمَةِ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِيَّةِ.

قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ: التَّقْسِيمَ، فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ بِوَاسِطَةٍ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ اقْتَضَاهُ الْمَعْنَى، وَفِي قَوْلِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَهَذَا التَّقْسِيمُ ملفوظ به. و: الاختصاص، مشارا إليه ومنصوبا عليه، و: التكرار، فِي لَفْظِ الْبَيِّنَاتِ، وَفِي وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ. و: الحذف، فِي قَوْلِهِ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أَيْ كِفَاحًا وَفِي قَوْلِهِ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ يَعْنِي مِنْ هِدَايَةِ مَنْ شَاءَ وَضَلَالَةِ مَنْ شَاءَ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ الِاخْتِلَافَ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَأَرَادَ الِاقْتِتَالَ، وَأَمَرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ الْجِهَادُ يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إِلَى الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ، أَمَرَ تَعَالَى بِالنَّفَقَةِ مِنْ بَعْضِ مَا رُزِقَ، فَشَمَلَ النَّفَقَةَ فِي الْجِهَادِ، وَهِيَ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، مُنْدَرِجَةٌ فِي قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا، وَدَاخِلَةٌ فِيهَا دُخُولًا أَوَلِيًّا، إِذْ جَاءَ الْأَمْرُ بِهَا عَقِبَ ذِكْرِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَاقْتِتَالِهِمْ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَالْأَكْثَرُونَ:

الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ صَدَقَةٍ وَاجِبَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ فِي الزَّكَاةِ، وَالزَّكَاةُ مِنْهَا جُزْءٌ لِلْمُجَاهِدِينَ، وَقَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: أَرَادَ الْإِنْفَاقَ الْوَاجِبَ لِاتِّصَالِ الْوَعِيدِ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا تَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى تَدَارُكِ مَا فَاتَكُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ، لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ فِيهِ حَتَّى تَبْتَاعُوا مَا تُنْفِقُونَهُ، وَلَا خُلَّةَ حَتَّى تُسَامِحَكُمْ أَخِلَّاؤُكُمْ بِهِ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحُطَّ عَنْكُمْ مَا فِي ذِمَّتِكُمْ مِنَ الْوَاجِبِ لَمْ تَجِدُوا شَفِيعًا يَشْفَعُ لَكُمْ فِي حَطِّ الْوَاجِبَاتِ، لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ ثَمَّ فِي زِيَادَةِ الْفَضْلِ لَا غَيْرَ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَرَادَ: وَالتَّارِكُونَ الزَّكَاةَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَقَالَ:

وَالْكَافِرُونَ، لِلتَّغْلِيظِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةِ الْحَجِّ: وَمَنْ كَفَرَ، مَكَانَ: وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ تَرْكَ الزَّكَاةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، فِي قَوْلِهِ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ «١» انتهى كلامه.


(١) سورة فصلت: ٤١/ ٦ و ٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>