إِنْ كَانَتْ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا الْهِبَةُ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى: نَعِيمًا، أَوْ ثَوَابًا صَادِرًا عَنِ الرَّحْمَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَسْئُولُ صَادِرًا عَنِ الرَّحْمَةِ، صَحَّ أَنْ يَسْأَلُوا الرَّحْمَةَ إِجْرَاءً لِلسَّبَبِ مَجْرَى الْمُسَبِّبِ. وَقِيلَ: مَعْنَى رَحْمَةً تَوْفِيقًا وَسَدَادًا وَتَثْبِيتًا لِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى.
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ هَذَا كَالتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِمْ: وَهَبْ لَنَا، كَقَوْلِكَ: حِلَّ هَذَا الْمُشْكِلَ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَالِمُ بِالْمُشْكِلَاتِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي عَلَى فَعَّالٍ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ قَالُوا:
وَهُوبٌ، لِمُنَاسَبَةِ رؤوس الْآيِ، وَيَجُوزُ فِي: أَنْتَ، التَّوْكِيدُ لِلضَّمِيرِ، وَالْفَصْلُ، وَالِابْتِدَاءُ.
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ لَمَّا سَأَلُوهُ تَعَالَى أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَهُمْ بَعْدَ الْهِدَايَةِ، وَكَانَتْ ثَمَرَةُ انْتِفَاءِ الزَّيْغِ وَالْهِدَايَةِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْبَعْثِ فِيهِ لِلْمُجَازَاةِ، وَأَنَّ اعْتِقَادَ صِحَّةِ الْوَعْدِ بِهِ هُوَ الَّذِي هَدَاهُمْ إِلَى سُؤَالِ أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَهُمْ. وَمَعْنَى: لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَيْ: لِجَزَاءِ يَوْمٍ، وَمَعْنَى: لَا رَيْبَ فِيهِ، لَا شَكَّ فِي وُجُودِهِ لِصِدْقِ مَنْ أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَقَعُ لِلْمُكَذِّبِ بِهِ رَيْبٌ فَهُوَ بِحَالِ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ.
وَقِيلَ: اللَّامُ، بِمَعْنَى: فِي، أَيْ: فِي يَوْمٍ، وَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ لِأَجْلِهِ لَمْ يُذْكَرْ، وَظَاهِرُ هَذَا الْجَمْعِ أَنَّهُ الْحَشْرُ مِنَ الْقُبُورِ لِلْمُجَازَاةِ، فَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ قِرَاءَةُ أَبِي حَاتِمٍ: جَامِعٌ النَّاسَ، بِالتَّنْوِينِ، وَنَصْبِ: النَّاسَ.
وَقِيلَ: مَعْنَى الْجَمْعُ هُنَا أَنَّهُ يَجْمَعُهُمْ فِي الْقُبُورِ، وَكَأَنَّ اللَّامَ تَكُونُ بِمَعْنَى إِلَى لِلْغَايَةِ، أَيْ: جَامِعُهُمْ فِي الْقُبُورِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ هُنَا لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الزَّمَانُ، إِذْ مِنَ النَّاسِ مَنْ مَاتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَمُتْ، فَنُسِبَ الْجَمْعُ إِلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الزَّمَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، عَائِدٌ عَلَى الْيَوْمِ، إِذِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَعَادَهُ عَلَى الْجَمْعِ الْمَفْهُومِ مِنْ جَامِعُ، أَوْ عَلَى الْجَزَاءِ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، فَقَدْ أَبْعَدَ.
إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ظَاهِرُ الْعُدُولِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى الِاسْمِ الْغَائِبِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِ الرَّاسِخِينَ الدَّاعِينَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ أن الإلهية تنافي خلف الْمِيعَادِ، كَقَوْلِكَ: إِنَّ الْجَوَادَ لا يخيب سائله، والميعاد: الْمَوْعِدُ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تُنَافِي خَلْفَ الْمِيعَادِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْجُبَّائِيُّ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ مُطْلَقًا، وَهُوَ عِنْدَنَا مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْعَفْوِ، كَمَا اتَّفَقْنَا نَحْنُ وَهَمَ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute