للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّوْبَةِ، وَالشَّرْطَانِ يُثْبَتَانِ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا مَا يَقُولُونَهُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَعِيدَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَعْدِ.

وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مِيعَادِ الْأَوْلِيَاءِ دُونَ وَعِيدِ الْأَعْدَاءِ، لِأَنَّ خَلْفَ الْوَعِيدِ كَرَمٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ يَمْدَحُونَ بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أَنْجَزَ وَعْدَهُ ... وَإِنْ وَعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُهْ

وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ كَلَامِ الدَّاعِينَ، وَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غِيبَةٍ لِمَا فِي ذِكْرِهِ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ مِنَ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْهَيْبَةِ، وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا وَالَوُا الدُّعَاءَ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنَا، أَخْبَرُوا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ الْوَفِيُّ بِالْوَعْدِ. وَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ الْإِيمَانَ بِالْبَعْثِ، وَالْمُجَازَاةِ، وَالْإِيفَاءِ بِمَا وَعَدَ تَعَالَى.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قِيلَ: الْمُرَادُ وَفْدُ نَجْرَانَ لِأَنَّهُ

رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَارِثَةَ بْنَ عَلْقَمَةَ قَالَ لِأَخِيهِ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنِّي إِنْ أَظْهَرْتُ ذَلِكَ أَخَذَ مُلُوكُ الرُّومِ مِنِّي مَا أَعْطَوْنِي مِنَ الْمَالِ.

وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى مُعَاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُرَيْظَةُ، وَالنَّضِيرُ. وَكَانُوا يَفْخَرُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَهِيَ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ.

وَمَعْنَى: مِنَ اللَّهِ، أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَمَعْنَى: أَغْنَى عَنْهُ، دَفْعَ عَنْهُ وَمَنْعَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْمَالُ فِي بَابِ الْمُدَافَعَةِ وَالتَّقَرُّبِ وَالْفِتْنَةِ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوْلَادِ، قُدِّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى «١» وَفِي قَوْلِهِ:

أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ

«٢» وَفِي قَوْلِهِ: وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ «٣» وَفِي قَوْلِهِ:

لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ «٤» بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ «٥» إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّهُ ذَكَرَ هُنَا حُبَّ الشَّهَوَاتِ، فَقَدَّمَ فِيهِ النِّسَاءَ وَالْبَنِينَ عَلَى ذِكْرِ الْأَمْوَالِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَنْ يُغْنِيَ، بِالْيَاءِ عَلَى تَذْكِيرِ الْعَلَامَةِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ: لن يغني،


(١) سورة سبأ: ٣٤/ ٣٧.
(٢) سورة الأنفال: ٨/ ٢٨.
(٣) سورة الحديد: ٥٧/ ٢٠.
(٤) سورة الشعراء: ٢٦/ ٨٨.
(٥) سورة آل عمران: ٣/ ١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>