للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْجُسْمَانِيَّةِ وَالْفَرَحِ الرَّوْحَانِيِّ، حَيْثُ عَلِمَ بِرِضَا اللَّهِ عَنْهُ،

كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى:

«يَسْأَلُ أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتِنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيَكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا.

فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الِانْتِقَالُ مِنْ عَالٍ إِلَى أَعْلَى مِنْهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، قَدْ ذَكَرَ تَعَالَى الْجَنَّاتَ وَالْمَسَاكِنَ الطَّيِّبَةَ فَقَالَ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «١» يُعْنَى أَكْبَرُ مِمَّا ذَكَرَ مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْمَسَاكِنِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَهْلُ الْجَنَّةِ مُطَهَّرُونَ لِأَنَّ الْعُيُوبَ فِي الْأَشْيَاءِ عِلْمُ الْفَنَاءِ، وَهُمْ خُلِقُوا لِلْبَقَاءِ، وَخَصَّ النِّسَاءَ بِالطُّهْرِ لِمَا فِيهِنَّ فِي الدُّنْيَا مِنْ فَضْلِ الْمَعَايِبِ وَالْأَذَى.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرِضْوَانٌ، بِالضَّمِّ حَيْثُ وَقَعَ إِلَّا فِي ثَانِي الْعُقُودِ، فَعَنْهُ خِلَافٌ. وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْكَسْرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا لُغَتَانِ.

وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أَيْ بَصِيرٌ بِأَعْمَالِهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهَا، فَيُجَازِي كُلًا بِعَمَلِهِ، فَتَضَمَّنَتِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ أَفْهَمُ مُقَابِلَهُمْ فَخَتَمَ الْآيَةَ بِهَذَا.

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْجَنَّةَ لِلْمُتَّقِينَ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِمْ، فَبَدَأَ بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ التَّقْوَى، وَذَكَرَ دُعَاءَهُمْ رَبَّهُمْ عِنْدَ الْإِخْبَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْإِيمَانِ، وَأَكَّدَ الْجُمْلَةَ ب: إن، مُبَالَغَةً فِي الْإِخْبَارِ، ثُمَّ سَأَلُوا الْغُفْرَانَ وَوِقَايَتَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ مُرَتِّبًا ذَلِكَ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَغْفِرَةُ، وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ عِبَارَةً عَنْ سَائِرِ الطَّاعَاتِ، كَمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ مَنْ تَابَ وَأَطَاعَ اللَّهَ لَا يُدْخِلُهُ النَّارَ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ، فَكَانَ يَكُونُ السُّؤَالُ فِي أَنْ لَا يَفْعَلَهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي، وَنَظِيرُهَا، رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً «٢» الْآيَةَ، فَالصِّفَاتُ الْآتِيَةُ بَعْدَ هَذَا لَيْسَتْ شَرَائِطَ بَلْ هِيَ صِفَاتٌ تَقْتَضِي كَمَالَ الدَّرَجَاتِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: مَدَحَهُمْ تَعَالَى بِهَذَا الْقَوْلِ، وَفِيهِ تَزْكِيَةُ أَنْفُسِهِمْ بِالْإِيمَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ بِالطَّاعَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:

فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ «٣» فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ اسْمًا لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ لَمْ يَرْضَ مِنْهُمُ التَّزْكِيَةَ بِالْإِيمَانِ، كَمَا لَمْ يَرْضَهَا بِسَائِرِ الطاعات، فالآية حجة على مَنْ جَعَلَ الطَّاعَاتِ مِنَ الإيمان،


(١) سورة براءة (التوبة) : ٩/ ٧٢.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٩٣.
(٣) سورة النجم: ٥٣/ ٣٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>