وَهُوَ أَبُو مَرْيَمَ الْبَتُولِ أُمِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ: الْحَسَنُ وَوَهْبٌ. وَقِيلَ: هُوَ عِمْرَانُ أَبُو مُوسَى وَهَارُونَ، وَهُوَ عِمْرَانُ بْنُ نُصَيْرٍ قَالَهُ مُقَاتِلٌ. فَعَلَى الْأَوَّلِ آلُهُ عِيسَى، قَالَهُ الْحَسَنُ وَعَلَى الثَّانِي آلُهُ مُوسَى وَهَارُونَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِآلِ عِمْرَانَ عِمْرَانُ نَفْسُهُ، وَالظَّاهِرُ فِي عِمْرَانَ أَنَّهُ أَبُو مَرْيَمَ لِقَوْلِهِ بَعْدُ إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ فَذَكَرَ قِصَّةَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا عِيسَى، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهَا بِقَوْلِهِ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ «١» فقوله: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ كَالشَّرْحِ لِكَيْفِيَّةِ الِاصْطِفَاءِ، لِقَوْلِهِ: وَآلَ عِمْرَانَ، وَصَارَ نَظِيرَ تَكْرَارِ الِاسْمِ فِي جُمْلَتَيْنِ، فَيَسْبِقُ الذِّهْنُ إِلَى أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَوَّلُ، نحو: أكرم زيدا إن زَيْدًا رَجُلٌ صَالِحٌ.
وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، كَانَ فِي ذَلِكَ إِلْبَاسٌ عَلَى السَّامِعِ. وَقَدْ رُجِّحَ الْقَوْلُ الْآخَرُ بِأَنَّ مُوسَى يُقْرَنُ بِإِبْرَاهِيمَ كَثِيرًا فِي الذِّكْرِ، وَلَا يَتَطَرَّقُ الْفَهْمُ إِلَى أَنَّ عِمْرَانَ الثَّانِيَ هُوَ أَبُو مُوسَى وَهَارُونَ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ تُسَمَّى مَرْيَمَ، وَكَانَتْ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى وَهَارُونَ سِنًّا، لِلنَّصِّ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ وَلَدَتْ عِيسَى، وَأَنَّ زَكَرِيَّا كَفَلَ مَرْيَمَ أُمَّ عِيسَى، وَكَانَ زَكَرِيَّا قَدْ تَزَوَّجَ أُخْتَ مَرْيَمَ إِمْشَاعَ ابْنَةَ عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ فَكَانَ يَحْيَى وَعِيسَى ابْنَيْ خَالَةٍ، وَبَيْنَ الْعِمْرَانَيْنِ وَالْمَرْيَمَيْنِ أَعْصَارٌ كَثِيرَةٌ. قِيلَ: بَيْنَ الْعِمْرَانَيْنِ أَلْفُ سَنَةٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآلَ من يؤول إِلَى الشَّخْصِ فِي قَرَابَةٍ أَوْ مَذْهَبٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى هَؤُلَاءِ هُنَا فِي الِاصْطِفَاءِ لِلْمَزَايَا الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ.
وَذَهَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ بِالْأَنْدَلُسِ: أَبُو الْحَكَمِ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرِضَى عَنْهُ، إِلَى أَنَّ ذِكْرَ آدَمَ وَنُوحٍ تَضَمَّنَ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَيْنِهِمَا، وَأَنَّ الْآلَ الْأَتْبَاعُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي قِصَّةِ بَعْضِهِمُ. انْتَهَى مَا قَالَ مُلَخَّصًا، وَقَوْلُهُ شَبِيهٌ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ آدَمَ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى دِينَ آدَمَ.
وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْمُرَادُ اصْطَفَى دِينَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ التِّبْرِيزِيُّ: هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَّ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ لَكَانَ: وَنُوحٍ مَجْرُورًا، لِأَنَّ آدَمَ مَحَلُّهُ الْجَرُّ بِالْإِضَافَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ التِّبْرِيزِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَوْلَا تَسْطِيرُهُ فِي الْكُتُبِ مَا ذَكَرْتُهُ. لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُجَرَّ الْمُضَافُ إِلَيْهِ إِذَا حُذِفَ الْمُضَافُ، فَيَلْزَمُ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٤٢.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute