النَّذْرِ وَهُوَ اسْتِدْفَاعُ الْمُخَوِّفِ بِمَا يَعْقِدُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ. وَقِيلَ: مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِشَرِيطَةٍ وَبِغَيْرِ شَرِيطَةٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَيْتَ رِجَالًا فِيكَ قَدْ نَذَرُوا دَمِي ... وَهَمُّوا بِقَتْلِي يَا بثين لقوني
و: لك، اللَّامُ فِيهِ لَامُ السَّبَبِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ التَّقْدِيرِ: لِخِدْمَةِ بَيْتِكَ، أَوْ لِلِاحْتِبَاسِ عَلَى طَاعَتِكَ.
مَا فِي بَطْنِي جَزَمَتِ النَّذْرَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا، أَوْ لِرَجَاءٍ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا.
مُحَرَّراً مَعْنَاهُ عَتِيقًا مِنْ كُلِّ شُغْلٍ مِنْ أَشْغَالِ الدُّنْيَا، فَهُوَ مِنْ لَفْظِ الْحُرِّيَّةِ. قَالَ محمد بن جعفر بن الزُّبَيْرِ: أَوْ خَادِمًا لِلْبِيعَةِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ: مُخْلِصًا لِلْعِبَادَةِ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. وَرَوَاهُ خُصَيْفٌ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَتَى بِلَفْظِ: مَا، دُونَ: مِنْ، لِأَنَّ الْحَمْلَ إِذْ ذَاكَ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْعَقْلِ، أَوْ لِأَنَّ: مَا، مُبْهَمَةٌ تَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ مَوْقِعَ: مِنْ.
وَنُسِبَ هَذَا إِلَى سِيبَوَيْهِ.
فَتَقَبَّلْ مِنِّي دَعَتِ اللَّهَ تَعَالَى بِأَنْ يَقْبَلَ مِنْهَا مَا نَذَرَتْهُ لَهُ، وَالتَّقَبُّلُ أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَى الرِّضَا بِهِ، وَأَصْلُهُ الْمُقَابَلَةُ بالجزاء، و: تقبل، هُنَا بِمَعْنَى: قَبِلَ، فَهُوَ مِمَّا تَفَعَّلَ فِيهِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، كَقَوْلِهِمْ: تَعَدَّى الشَّيْءَ وعداه، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا تَفَعَّلَ.
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ خُتِمَتْ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّهَا اعْتَقَدَتِ النَّذْرَ، وَعَقَدَتْهُ بَنِيَّتِهَا، وَتَلَفَّظَتْ بِهِ، وَدَعَتْ بِقَبُولِهِ. فَنَاسَبَ ذَلِكَ ذِكْرُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ.
وَالْعَامِلُ فِي: إِذْ، مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: أَذْكُرُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَالْمُبَرِّدُ، أَوْ مَعْنَى الِاصْطِفَاءُ، التَّقْدِيرُ: وَاصْطَفَى آلَ عِمْرَانَ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وعلى هذا يجعل وَآلَ عِمْرانَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ لَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، لِأَنَّهُ إِنْ جُعِلَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ اصْطَفَى آدَمَ، وَلَا يَسُوغُ ذَلِكَ لِتَغَايُرِ زَمَانِ هَذَا الِاصْطِفَاءِ، وَزَمَانِ قَوْلِ امْرَأَةِ عِمْرَانَ، فَلَا يَصِحُّ عَمَلُهُ فِيهِ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْعَامِلَ فِيهِ: سَمِيعٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ، أَوْ:
سَمِيعٌ عَلِيمٌ، لِقَوْلِ امْرَأَةِ عمران ونيتها، وَ: إِذْ، مَنْصُوبٌ بِهِ. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلِيمٌ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ وَصْفًا لِقَوْلِهِ: سَمِيعٌ، فَإِنْ كَانَ خَبَرًا فَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بِهِ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ وَصْفًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ: