فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قِيلَ: النِّدَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّبْشِيرِ وَفِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْرَعَ بِهِ وَيَنْهَى إِلَى نَفْسِ السَّامِعِ لِيُسَرَّ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا إِخْبَارًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى عُرْفِ الْوَحْيِ، بَلْ نِدَاءٌ كَمَا نَادَى الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ. قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَغَيْرُهُ.
وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ، بَلِ الْمُنَادَاةُ تَكُونُ لِتَبْشِيرٍ وَلِتَحْزِينٍ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ،
كَمَا جَاءَ. «يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ بِلَا موت»
وجاء: يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً «١» وَإِنَّمَا فُهِمَتِ الْبِشَارَةُ فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ لَا أَنَّ لَفْظَ نَادَتْهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لَا بِالْوَضْعِ وَلَا بِالِاسْتِعْمَالِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نِدَاؤُهُمْ إِيَّاهُ عَلَى سَبِيلِ الْوَحْيِ، أَيْ: أُوحِيَ إِلَيْهِمْ بِأَنْ يُنَادُوهُ، أَوْ يَكُونَ نَادَوْهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا يُقَالُ لَكَ: بَلِّغْ زَيْدًا كَذَا وَكَذَا، فَتَقُولَ لَهُ: يَا زَيْدُ جَرَى كَذَا وَكَذَا. وَهُمَا قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ.
وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَتَقَبَّلَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وَوَهَبَ لَهُ يَحْيَى، وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ بِذَلِكَ، فَنَادَتْهُ. وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ دُعَائِهِ وَالِاسْتِجَابَةِ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَالظَّاهِرُ خِلَافُ ذَلِكَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُنَادِيَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِصِيغَةِ اللَّفْظِ، وَقَدْ بَعَثَ تَعَالَى مَلَائِكَةً إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَإِلَى إِبْرَاهِيمَ وَفِي غَيْرِ مَا قَصَّهُ.
وَذَكَرَ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ جِبْرِيلُ وَحْدَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُصْحَفُهُ: فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَائِمٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا قِيلَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ، يَعْنِي: إِنَّ الَّذِي نَادَاهُ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، لَا يُرِيدُ خُصُوصِيَّةَ الْجَمْعِ، كَمَا أَنَّ قولهم:
فلان يركب الخيل لَا يُرِيدُ خُصُوصِيَّةَ الْجَمْعِ، إِنَّمَا يُرِيدُ مَرْكُوبَهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. وَخَرَجَ عَلَيْهِ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ، وَهُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ. وَقَالَ الْفَضْلُ: الرَّئِيسُ يُخْبَرُ عَنْهُ أَخْبَارُ الْجَمْعِ لِاجْتِمَاعِ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، أَوْ لِاجْتِمَاعِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ فِيهِ، الْمُتَفَرِّقَةِ فِي غَيْرِهِ. فَعَبَّرَ عَنْهُ بالكثرة لذلك. قيل: وجبريل رَئِيسُ الْمَلَائِكَةِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: فَنَادَاهُ، مُمَالَةٌ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: فَنَادَتْهُ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ و: الملائكة، جَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ الْعَلَامَةُ، وَأَنْ لَا يَلْحَقَ. تَقُولُ: قَامَ الرِّجَالُ، وَقَامَتِ الرِّجَالُ. وَإِلْحَاقُ الْعَلَامَةِ قِيلَ. أَحْسَنُ، أَلَا تَرَى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ؟ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا؟ وَمُحَسَّنٌ الْحَذْفُ هُنَا الْفَصْلُ بِالْمَفْعُولِ.
وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ
ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ الْحَبْرَ الْكَبِيرَ الَّذِي يقرب
(١) سورة غافر: ٤٠/ ٣٦.