مَنْ نَادَاكَ؟ قَالَ: مَلَائِكَةُ رَبِّي! قَالَ لَهُ: بَلْ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ لَأَخْفَاهُ لَكَ كَمَا أَخْفَيْتَ نِدَاءَكَ، فَخَالَطَتْ قَلْبَهُ وَسْوَسَةٌ، فَقَالَ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ لِيُبَيِّنَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْوَحْيِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ. قَالَ الْقَاضِي: لَوِ اشْتَبَهَ عَلَى الرُّسُلِ كَلَامُ الْمَلَكِ بِكَلَامِ الشَّيْطَانِ لَمْ يَبْقَ الْوُثُوقُ بِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ مَا قَالَهُ لَا يَلْزَمُ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَقُومَ الْمُعْجِزَةُ عَلَى الْوَحْيِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحَ الدُّنْيَا فَرُبَّمَا لَا يُؤَكَّدُ بِالْمُعْجِزَةِ، فَيَبْقَى الِاحْتِمَالُ، فَيَطْلُبُ زَوَالَهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اسْتِبْعَادٌ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ. كَمَا قَالَتْ مَرْيَمُ. انْتَهَى. وَعَلَى مَا قَالَهُ:
لَوْ كَانَ اسْتِبْعَادًا لَمَا سَأَلَهُ بِقَوْلِهِ: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً لِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُ إِلَّا مَا كَانَ مُمْكِنًا لَا سِيَّمَا الْأَنْبِيَاءُ، لِأَنَّ خَرْقَ الْعَادَةِ فِي حَقِّهِمْ كَثِيرُ الْوُقُوعِ.
وَ: يَكُونُ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً وَفَاعِلُهَا غُلَامٌ، أَيْ: أنَّى يَحْدُثُ لِي غُلَامٌ؟ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً، وَلَا يَتَعَيَّنُ إِذْ ذَاكَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الِاسْمِ، لِأَنَّهُ قِيلَ: دُخُولُ كَانَ مُصَحِّحٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، إِذْ تَقَدُّمُ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ مُسَوِّغٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَالْجُمْلَتَانِ بَعْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا: يَكُونُ، إِنْ كَانَتْ تَامَّةً، أَوِ الْعَامِلُ فِي: لِي، إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً.
وَقِيلَ: وَامْرَأَتِي عاقِرٌ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ فِي: بَلَغَنِي، وَالْعَامِلُ بَلَغَنِي، وَكَانَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى فِعْلِيَّةً لِأَنَّ الْكِبَرَ يَتَجَدَّدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَمْ يَكُنْ وَصْفًا لَازِمًا، وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ اسْمِيَّةً وَالْخَبَرُ: عاقر، لأن كَوْنُهَا عَاقِرًا أَمْرٌ لَازِمٌ لَهَا لَمْ يَكُنْ وَصْفًا طَارِئًا عَلَيْهَا، فَنَاسَبَ لِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، وَنَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً، وَمَعْنَى: بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ، أَثَّرَ فِيَّ: وَحَقِيقَةُ الْبُلُوغِ فِي الْأَجْرَامِ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْبَالِغُ إِلَى الْمَبْلُوغِ إِلَيْهِ.
وَأَسْنَدَ الْبُلُوغَ إِلَى الْكِبَرِ تَوَسُّعًا فِي الْكَلَامِ، كَأَنَّ الْكِبَرَ طَالِبٌ لَهُ، لِأَنَّ الْحَوَادِثَ طَارِئَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَكَأَنَّهَا طَالِبَةٌ لَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، كَمَا جَاءَ: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا «١» وَكَمَا قَالَ:
مِثْلَ الْقَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ ... نَجْرَانَ أَوْ بلغت سوآتهم هَجَرُ
وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِذَا بَلَغْتَ الْكِبَرَ فَقَدْ بَلَغَكَ الْكِبَرُ. انْتَهَى. وَهُنَا قَدَّمَ حَالَ نَفْسِهِ وَأَخَّرَ حَالَ
(١) سورة مريم: ١٩/ ٦٩.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute