للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْبِرِّ فِي قَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ «١» وَلَكِنْ فَعَلْنَا مَا قَالَ النَّاسُ فِي خُصُوصِيَّةِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَ: مَنْ، فِي: مِمَّا تُحِبُّونَ، لِلتَّبْعِيضِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: حَتَّى تُنْفِقُوا بَعْضَ مَا تُحِبُّونَ. وَ: مَا، مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ.

وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ هُنَا هُوَ مَيْلُ النَّفْسِ وَتَعَلُّقُهَا التَّعَلُّقَ التَّامَّ بِالْمُنْفِقِ، فَيَكُونُ إِخْرَاجُهُ عَلَى النَّفْسِ أَشَقَّ وَأَصْعَبَ مِنْ إِخْرَاجِ مَا لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْسُ ذَلِكَ التَّعَلُّقَ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ: بِأَنَّهُ مَحْبُوبُ الْمَالِ، كَقَوْلِهِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ «٢» لِذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَصَدَّقُوا بِأَحَبِّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ، فَتَصَدَّقَ أَبُو طلحة ببئرحاء، وَتَصَدَّقَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِفَرَسٍ لَهُ كَانَ يُحِبُّهَا، وَابْنُ عُمَرَ بِالسُّكَّرِ وَاللَّوْزِ لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّهُ، وَأَبُو ذَرٍّ بِفَحْلِ خَيْرِ إِبِلِهِ وَبِبُرْنُسٍ عَلَى مَقْرُورٍ، وَتَلَا الْآيَةَ، وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ بِالسُّكَّرِ لِحُبِّهِ لَهُ، وَأَعْتَقَ عُمَرُ جَارِيَةً أَعْجَبَتْهُ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ جَارِيَةً كَانَتْ أَعْجَبَ شَيْءٍ إِلَيْهِ.

وَقِيلَ: مَعْنَى مِمَّا تُحِبُّونَ، نَفَائِسُ الْمَالِ وَطِيِّبُهُ لَا رَدِيئُهُ وَخَبِيثُهُ. وَقِيلَ: مَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ. وَقِيلَ: كُلُّ شَيْءٍ يُنْفِقُهُ الْمُسْلِمُ مِنْ مَالِهِ يَطْلُبُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ.

وَلَفْظَةُ: تُحِبُّونَ، تَنْبُوُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْإِنْفَاقَ هُوَ فِي النَّدْبِ، لِأَنَّ الْمُزَكِّيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ أَشْرَفَ أَمْوَالِهِ وَلَا أَحَبَّهَا إِلَيْهِ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي النَّدْبِ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا يُنَافِي الزَّكَاةَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ يَصِيرُ شِعْرًا بِأَشْيَاءَ، مِنْهَا: قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى أَنْ يَكُونَ شِعْرًا، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى وَزْنِ بَيْتِ الرَّمَلِ، يسمى المجزؤ وَالْمُسَبَّعَ، وَهُوَ:

يَا خَلِيلِيَّ أربعا واستخبر ال ... مَنْزِلِ الدَّارِسِ عَنْ حَيِّ حَلَالْ

رَسْمًا بِعُسْفَانْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ شِعْرًا.

وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا.


(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٤.
(٢) سورة الإنسان: ٧٦/ ٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>