للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَلَا يُخَالَطْ، أَوْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ:

لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيهِ، لَا بِقَتْلٍ وَلَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَلَا يُخَالَطُ. قَالُوا: وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَنَى فِيهِ لَا يُؤَمَّنُ، لِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ وَرَدَّ الْأَمَانَ. فَبَقِيَ حُكْمُ الْآيَةِ فِيمَنْ جَنَى خَارِجًا مِنْهُ ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَيْهِ. وَقَالُوا: هَذَا خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ. أَيْ وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ. وَهُوَ عَامٌّ فِيمَنْ جَنَى فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ثُمَّ دَخَلَهُ، لَكِنْ صَدَّ الْإِجْمَاعَ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَنْ جَنَى فِيهِ وَبَقِيَ حُكْمُ الْآيَةِ مُخْتَصًّا بِمَنْ جَنَى خَارِجًا مِنْهُ ثُمَّ دَخَلَهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ فِي آخَرِينَ: آمِنًا مِنَ النَّارِ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدٍ فِي. وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا: أَيْ وَمَنْ دَخَلَهُ حَاجًّا، أَوْ مَنْ دَخَلَهُ مُخْلِصًا فِي دُخُولِهِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَمَنْ دَخَلَهُ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «١» .

وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: مَنْ دَخَلَهُ وَرَقَى عَلَى الصَّفَا أَمِنَ أَمْنَ الْأَنْبِيَاءِ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ مَا بَدَأْنَا بِهِ أَوَّلًا، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ سِوَاهُ مُتَكَلَّفَاتٌ، وَيَنْبُو اللَّفْظُ عَنْهَا، وَيُخَالِفُ بَعْضُهَا ظَوَاهِرَ الْآيَاتِ وَقَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا

رَوَى عِكْرِمَةُ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا «٢» قَالَتِ الْيَهُودُ: نَحْنُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَنَزَلَتْ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الْآيَةَ، قِيلَ لَهُ: حُجَّهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي هِيَ الْإِسْلَامُ، فَلْيَحُجُّوا إِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَقَالَتِ الْيَهُودُ: لَا نَحُجُّهُ أَبَدًا.

وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَأْكِيدِ فَرْضِ الْحَجِّ، إِذْ جَاءَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ، فَيُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ تَعَالَى، وَجَاءَ بعلى الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ، وَجَاءَ مُتَعَلِّقًا بِالنَّاسِ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخُصُوصَ لِيَكُونَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

وَفِي هَذَا الْكَلَامِ أَنْوَاعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ. فَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ يَعْنِي أَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلَّهِ فِي رِقَابِ النَّاسِ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ أَدَائِهِ وَالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ ذَكَرَ النَّاسَ ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْهُ، مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَفِيهِ ضَرْبَانِ مِنَ التَّأْكِيدِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِبْدَالَ تَنْبِيهٌ لِلْمُرَادِ وَتَكْرِيرٌ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِيضَاحَ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَالتَّفْصِيلَ بَعْدَ الْإِجْمَالِ إِيرَادٌ لَهُ فِي صُورَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ حِجٌّ بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَهُمَا لُغَتَانِ: الْكَسْرُ لُغَةُ نَجْدٍ، وَالْفَتْحُ لُغَةُ أَهْلِ الْعَالِيَةِ.

وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ الْحِجَّ بِالْكَسْرِ مَصْدَرًا نَحْوَ: ذَكَرَ ذِكْرًا. وَجَعَلَهُ الزَّجَّاجُ اسْمَ الْعَمَلِ. وَلَمْ يختلفو فِي الْفَتْحِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَحَجٌّ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فِي الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ وَلِلَّهِ وَعَلَى النَّاسِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَامِلِ فِي الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ خَبَرٌ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ عَلَى النَّاسِ حَالًا، وأن


(١) سورة الفتح: ٤٨/ ٢٧.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ٨٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>