وَفِي إِنْكَارِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنِ ظَنَّ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ يَكُونُ مَعَ انْتِفَاءِ الْجِهَادِ، وَالصَّبْرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ دَلِيلٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ إِذْ ذَاكَ، وَالثَّبَاتِ لِلْعَدُوِّ وَقَدْ ذُكِرَ
فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ التَّوَلِّيَ عِنْدَ الزَّحْفِ مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ» .
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ. وَذَلِكَ
أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَحْضُرُوا غَزْوَةَ بَدْرٍ، إِذْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا خَرَجَ مُبَادِرًا يُرِيدُ عير القريش، فَلَمْ يَظُنُّوا حَرْبًا، وَفَازَ أَهْلُ بَدْرٍ بِمَا فَازُوا بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ لِيَكُونَ لَهُمْ يَوْمٌ كَيَوْمِ بَدْرٍ، وَهُمُ الَّذِينَ حَرَّضُوا عَلَى الْخُرُوجِ لِأُحُدٍ. فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَمِيئَةَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ الذَّابَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَانًّا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: قَتَلْتُ مُحَمَّدًا وَصَرَخَ بذلك صارخ، وفشاد ذَلِكَ فِي النَّاسِ انْكَفُّوا فَارِّينَ، فَدَعَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وسلم «إلي عِبَادَ اللَّهِ» حَتَّى انْحَازَتْ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ وَاسْتَعْذَرُوا عَنِ انْكِفَافِهِمْ قَائِلِينَ: أَتَانَا خَبَرُ قَتْلِكَ، فَرُعِبَتْ قُلُوبُنَا، فَوَلَّيْنَا مُدْبِرِينَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَلُومُهُمْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَعَ مَا كَانُوا قَرَّرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ.
وَعَبَّرَ عَنْ مُلَاقَاةِ الرِّجَالِ وَمُجَالَدَتِهِمْ بِالْحَدِيدِ بِالْمَوْتِ، إِذْ هِيَ حَالَةٌ تَتَضَمَّنُ فِي الْأَغْلَبِ الْمَوْتَ، فَلَا يَتَمَنَّاهَا إِلَّا مَنْ طَابَتْ نَفْسُهُ بِالْمَوْتِ. وَمُتَمَنِّي الْمَوْتِ فِي الْجِهَادِ لَيْسَ مُتَمَنِّيًا لِغَلَبَةِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمِ، إِنَّمَا يَجِيءُ ذَلِكَ فِي الضِّمْنِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ، إِنَّمَا مَقْصِدُهُ نَيْلُ رُتْبَةِ الشهادة لما فيه مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَنْشَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَقَدْ نَهَضَ إِلَى مَوْتِهِ وَقَالَ لَهُمْ: رَدَّكُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ:
لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْعٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا على جدثي ... يا رشد اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ: أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُشَاهِدُوا شَدَائِدَهُ وَمَضَائِقَهُ. وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِي تَلْقَوْهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْتِ، وَقِيلَ: عَلَى الْعَدُوِّ، وَأُضْمِرَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ يَعُودُ عَلَى مَذْكُورٍ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ: تُلَاقُوهُ وَمَعْنَاهَا وَمَعْنَى تَلْقَوْهُ سَوَاءٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَعْنَى لَقِيَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ مِنِ اثْنَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ مِنْ قَبْلُ بِضَمِّ اللَّامِ مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ، فَيَكُونُ مَوْضِعُ أَنْ تَلْقَوْهُ نَصْبًا عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْمَوْتِ. فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أَيْ عَايَنْتُمْ أَسْبَابَهُ وَهِيَ الْحَرْبُ الْمُسْتَعِرَةُ كَمَا قَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute