للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُجَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتِكَانَتِهِمْ لَهُمْ، حِينَ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَعْتَضِدَ بِالْمُنَافِقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فِي طَلَبِ الْأَمَانِ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ.

وَاسْتَكَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتَفْعَلَ مِنَ الْكَوْنِ، فَتَكُونُ أَصْلُ أَلِفِهِ وَاوًا أَوْ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ:

مَاتَ فُلَانٌ بِكِينَةِ سُوءٍ، أَيْ بِحَالَةِ سُوءٍ. وَكَانَهُ يَكِينُهُ إِذَا خَضَّعَهُ قَالَ هَذَا: الْأَزْهَرِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ. فَعَلَى قَوْلِهِمَا أَصْلُ الْأَلِفِ يَاءٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَطَائِفَةٌ مِنَ النُّحَاةِ: أَنَّهُ افْتَعَلَ مِنَ السُّكُونِ، وَأُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ فَتَوَلَّدَ مِنْهَا أَلِفٌ. كَمَا قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ، يُرِيدُ مِنَ الْعَقْرَبِ. وَهَذَا الْإِشْبَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي جَمِيعِ تَصَارِيفِهَا بُنِيَتْ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ تَقُولُ: اسْتَكَانَ يَسْتَكِينُ فَهُوَ مُسْتَكِينٌ وَمُسْتَكَانٌ لَهُ، وَالْإِشْبَاعُ لَا يَكُونُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ.

وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ أَيْ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمْ قَالَهُ: الْجُمْهُورُ. أَوْ عَلَى دِينِهِمْ وَقِتَالِ الْكُفَّارِ. وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ لِكُلِّ صَابِرٍ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جُرْحٍ، أَوْ بَلَاءٍ، أَوْ أَذًى يَنَالُهُ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ مُصِيبَةٍ فِي نَفْسِهِ، أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ.

وَكَثِيرًا مَا تَمَدَّحَتِ الْعَرَبُ بِالصَّبْرِ وَحَرَصَتْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ:

وَتَشَكِّي النَّفْسُ مَا أَصَابَ بِهَا ... فَاصْبِرِي إِنَّكِ مِنْ قَوْمٍ صُبُرُ

إِنْ تُلَاقِي سفسيالا بَلَغْنَا ... فُرُحَ الْخَيْرِ وَلَا تكبو الضبر

وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ لَمَّا ذَكَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْجَلَدِ وَالصَّبْرِ وَعَدَمِ الْوَهْنِ وَالِاسْتِكَانَةِ لِلْعَدُوِّ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّفْسَانِيَّةِ الَّتِي يَظْهَرُ أَثَرُهَا عَلَى الْجَوَارِحِ، ذَكَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِنَابَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ، وَحَصَرَ قَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلْجَأٌ وَلَا مَفْزَعٌ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا قَوْلٌ إِلَّا هَذَا الْقَوْلٌ. لَا مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَاخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ. فَمِنْ قَائِلٍ: نَأْخُذُ أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَمِنْ قَائِلٍ: نَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا، وَمِنْ قَائِلٍ مَا قَالَ حِينَ فَرَّ. وَهَؤُلَاءِ قَدْ فُجِعُوا بِمَوْتِ نَبِيِّهِمْ أَوْ رِبِّيِّيهِمْ لَمْ يَهِنُوا، بَلْ صَبَرُوا وَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَهُمْ رِبِّيُّونَ أَحْبَارٌ هَضْمًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِشْعَارًا أَنَّ مَا نَزَلْ من بلاد الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ بِذُنُوبٍ مِنَ الْبَشَرِ، كَمَا كَانَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ بِعِصْيَانِ مَنْ عَصَى.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَوْلَهُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وإن قَالُوا فِي مَوْضِعِ الِاسْمِ، جَعَلُوا مَا كَانَ أَعْرَفَ الِاسْمَ، لِأَنَّ إِنْ وَصِلَتَهَا تتنزل منزلة الضمير. وقولهم: مضاف للمضير، يَتَنَزَّلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>