للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِيمَا ذَكَرَهُ الَمَهَدَوِيُّ بِرَفْعِ قَوْلِهِمْ، جعلوه اسم كان، والخبران قَالُوا. وَالْوَجْهَانِ فَصِيحَانِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَكْثَرُ. وَقَدْ قرىء: ثم لم تكن فتنتهم بِالْوَجْهَيْنِ فِي السَّبْعَةِ، وَقَدَّمَ طَلَبَ الِاسْتِغْفَارِ عَلَى طَلَبِ تَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ وَالنُّصْرَةِ، لِيَكُونَ طَلَبُهُمْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَنْ زَكَاةٍ وَطَهَارَةٍ. فَيَكُونُ طَلَبُهُمُ التَّثْبِيتَ بِتَقْدِيمِ الِاسْتِغْفَارِ حَرِيًّا بِالْإِجَابَةِ، وَذُنُوبُنَا وَإِسْرَافُنَا مُتَقَارِبَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَجَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ.

وَقِيلَ: الذُّنُوبُ مَا دُونُ الْكَبَائِرِ، وَالْإِسْرَافُ الْكَبَائِرُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الذُّنُوبُ هِيَ الْخَطَايَا، وَإِسْرَافُنَا أَيْ تَفْرِيطُنَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الذُّنُوبُ عَامٌّ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْأَمْرِ الْكَبَائِرُ خَاصَّةً.

وَالْأَقْدَامُ هُنَا قِيلَ: حَقِيقَةٌ، دَعَوْا بِتَثْبِيتِ الأقدام في مواطىء الْحَرْبِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ كَيْ لَا تَزُلْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى شَجِّعْ قُلُوبَنَا عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَقِيلَ: ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ.

وَالْأَحْسَنُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ مِنْ مَظَانِّهَا. وَثُبُوتُ الْقَدَمِ فِي الْحَرْبِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ثُبُوتِ صَاحِبِهَا فِي الدِّينِ. وَكَثِيرًا مَا جَاءَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ دَائِرَةً فِي الْحَرْبِ وَمَعَ النُّصْرَةِ كَقَوْلِهِ:

أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا «١» إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ «٢» وَقِيلَ: اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا فِي الْمُخَالَفَةِ، وَإِسْرَافَنَا فِي الْهَزِيمَةِ، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا بِالْمُصَابَرَةِ، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ بِالْمُجَاهَدَةِ.

قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: فِي هَذَا الدُّعَاءِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ أَفْعَالَ الْعَبْدِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لم يسع أَنْ يُدْعَى فِيمَا لَمْ يَفْعَلْهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّعَاءِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْمُعَيَّنِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَدْعِيَةٌ أَعْقَبَ اللَّهُ بِالْإِجَابَةِ فِيهَا فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ قَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: فَأَثَابَهُمُ مِنَ الْإِثَابَةِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ فِي دُعَائِهِمْ مَا يَتَضَمَّنُ الْإِجَابَةَ فِيهِ الثَّوَابَيْنَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا، فَهَذَا يَتَضَمَّنُ ثَوَابَ الْآخِرَةِ. وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا يَتَضَمَّنُ ثَوَابَ الدُّنْيَا، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مَنَحَهُمُ الثَّوَابَيْنِ. وَهُنَاكَ بَدَأُوا فِي الطَّلَبِ بِالْأَهَمِّ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَهُنَا أَخْبَرَ بِمَا أَعْطَاهُمْ مُقَدَّمًا. ذَكَرَ ثَوَابَ الدُّنْيَا لِيَكُونَ ذَلِكَ إِشْعَارًا لَهُمْ بِقَبُولِ دُعَائِهِمْ وَإِجَابَتِهِمْ إِلَى طَلَبِهِمْ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ. قَالَ قتادة


(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٠.
(٢) سورة محمد: ٤٧/ ٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>