للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالتَّوَكُّلِ، وَنَاطَ الْأَمْرَ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يُنَاسِبُ مَعَهُ التَّوَكُّلَ وَهُوَ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُصَدِّقٌ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ بِيَدِهِ النَّصْرُ وَالْخِذْلَانُ. وَأَشْرَكَهُمْ مَعَ نَبِيِّهِمْ فِي مَطْلُوبِيَّةِ التَّوَكُّلِ، وَهُوَ إِضَافَةُ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَفْوِيضِهَا إِلَيْهِ.

وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ مِنْ فُرُوضِ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ يَقْتَرِنُ بِالتَّشْمِيرِ فِي الطَّاعَةِ وَالْجَزَامَةِ بِغَايَةِ الْجُهْدِ، وَمُعَاطَاةِ أَسْبَابِ التَّحَرُّزِ، وَلَيْسَ الْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ وَالْإِهْمَالُ لِمَا يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ بِتَوَكُّلٍ، وَإِنَّمَا هو كَمَا

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَيِّدْهَا وَتَوَكَّلْ»

وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ «١» وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ بَعْدِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مِنْ بَعْدِ خِذْلَانِهِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا يُخْذَلُ مِنَ الَّذِي يُنْصَرُ. وَإِمَّا أَنْ لَا يحتاج إلى تقدير هذا الْمَحْذُوفِ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى: إِذَا جَاوَزْتَهُ إِلَى غَيْرِهِ وَقَدْ خَذَلَكَ فَمَنْ ذَا الَّذِي تُجَاوِزُهُ إِلَيْهِ فَيَنْصُرُكَ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْخِذْلَانِ. وَجَاءَ جَوَابُ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ بِصَرِيحِ النَّفْيِ الْعَامِّ، وَجَوَابُ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ يَتَضَمَّنُ النَّفْيَ وَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ، وَهُوَ مِنْ تَنْوِيعِ الْكَلَامِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالتَّلَطُّفِ بِالْمُؤْمِنِينَ حَتَّى لَا يُصَرِّحَ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُمْ، بَلْ أَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَقْتَضِي السُّؤَالَ عَنِ النَّاصِرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى نَفْيِ النَّاصِرِ. لَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّرِيحِ وَالْمُتَضَمِّنِ، فَلَمْ يُجْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ مَجْرَى الْكُفَّارِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ بِالصَّرِيحِ أَنَّهُ لَا نَاصِرَ لَهُمْ كَقَوْلِهِ: أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ «٢» وظاهره النُّصْرَةِ أَنَّهَا فِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى مُكَافَحَتِهِ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا النُّصْرَةَ بِالْحُجَّةِ الْقَاهِرَةِ، وَبِالْعَاقِبَةِ فِي الْآخِرَةِ. فَقَالُوا: الْمَعْنَى إِنْ حَصَلَتْ لَكُمُ النُّصْرَةُ فَلَا تَعُدُّوا مَا يَعْرِضُ مِنَ الْعَوَارِضِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ غَلَبَةً، وَإِنْ خَذَلَكُمْ فِي ذَلِكَ فَلَا تَعُدُّوا مَا يَحْصُلُ لَكُمْ مِنَ الْقَهْرِ فِي الدُّنْيَا نُصْرَةً، فَالنُّصْرَةُ وَالْخِذْلَانُ معتبران بالمئال. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ نَصَرَهُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ، وَلِيَخُصَّ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّوَكُّلِ وَالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ، لعلمهم أَنَّهُ لَا نَاصِرَ سِوَاهُ، وَلِأَنَّ إِيمَانَكُمْ يُوجِبُ ذَلِكَ وَيَقْتَضِيهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَخَذَ الِاخْتِصَاصَ مِنْ تَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَتِهِ، بِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ يُوجِبُ الْحَصْرَ وَالِاخْتِصَاصَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَخْذُلُكُمْ مِنْ خَذَلَ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: يَخْذُلُكُمْ


(١) سورة فاطر: ٣٥/ ٢.
(٢) سورة محمد: ٤٧/ ١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>