للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ غَيْرُهُمَا: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُدْخِلْ عَلَيْهِ وَاوَ الْعَطْفِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَحْزَنُونَ، وَيَحْزَنُونَ هُوَ الْعَامِلُ فِيهَا، فَبَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ.

لِأَنَّ الظَّاهِرَ اخْتِلَافُ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ الْحُزْنُ وَالْمُسْتَبْشِرِ، وَلِأَنَّ الْحَالَ قُيِّدَ، وَالْحُزْنُ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَسْتَبْشِرُونَ لَيْسَ بِتَأْكِيدٍ لِلْأَوَّلِ، بَلْ هُوَ اسْتِئْنَافٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِمْ أَنْفُسِهِمْ، لَا بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ. فَقَدِ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ الْفِعْلَيْنِ، فَلَا تَأْكِيدَ لِأَنَّ هَذَا الْمُسْتَبْشِرَ بِهِ هُوَ لَهُمْ، وَهُوَ: نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَفَضْلُهُ. وَفِي التَّنْكِيرِ دَلَالَةٌ عَلَى بَعْضٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِشَارَةٌ إِلَى إِبْهَامِ الْمُرَادِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى صُعُوبَةِ إِدْرَاكِهِ، كَمَا

جَاءَ فِيهَا «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»

وَالظَّاهِرُ تَبَايُنُ النِّعْمَةِ وَالْفَضْلِ لِلْعَطْفِ، وَيُنَاسِبُ شَرْحُهُمَا أَنْ يَنْزِلَ عَلَى قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى «١» وَزِيَادَةٌ فَالْحُسْنَى هِيَ النِّعْمَةُ، وَالزِّيَادَةُ هِيَ الْفَضْلُ لِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَحْسَنُوا وَقَوْلِهِ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ «٢» .

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النِّعْمَةُ هِيَ الْجَزَاءُ وَالْفَضْلُ زَائِدٌ عَلَيْهِ قَدْرَ الْجَزَاءِ. وَقِيلَ: النِّعْمَةُ قَدْرُ الْكِفَايَةِ، وَالْفَضْلُ الْمُضَاعَفُ عَلَيْهَا مَعَ مُضَاعَفَةِ السُّرُورِ بِهَا وَاللَّذَّةِ. وَقِيلَ: الْفَضْلُ دَاخِلٌ فِي النِّعْمَةِ دَلَالَةٌ عَلَى اتِّسَاعِهَا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَنِعَمِ الدُّنْيَا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وجماعة: وَإِنَّ اللَّهَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَمُصْحَفُهُ: وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ اعْتِرَاضٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ انْتَهَى. وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ هُنَا اعْتِرَاضًا لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِاسْتِئْنَافِ أَخْبَارٍ.

وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى مُتَعَلِّقِ الِاسْتِبْشَارِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِيهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَسْتَبْشِرُونَ بِتَوْفِيرِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَوُصُولِهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُضِعْهُ وَصَلَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَبْخَسُوهُ. وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِبْشَارُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الِاسْتِبْشَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا لَمْ يَتَقَدَّمْ بِهِ عِلْمٌ، وَقَدْ عَلِمُوا قَبْلَ مَوْتِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِأَنَّ اللَّهَ مَا أَضَاعَ أُجُورَهُمْ حَتَّى اخْتَصَّهُمْ بِالشَّهَادَةِ وَمَنَحَهُمْ أَتَمَّ النِّعْمَةِ، وَخَتَمَ لَهُمْ بِالنَّجَاةِ وَالْفَوْزِ، وَقَدْ كَانُوا يَخْشَوْنَ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الْخَاتِمَةِ الْمُحْبِطَةِ لِلْأَعْمَالِ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَمَا اخْتَصَّهُمْ بِهِ مِنْ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ الَّتِي تَصِحُّ مَعَهَا الْأُجُورُ وَتُضَاعَفُ الْأَعْمَالُ، اسْتَبْشَرُوا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى وَجَلٍ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وفيه


(١) سورة يونس: ١٠/ ٢٦.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>