للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَحَتَّى لِلْغَايَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَى أَنْ يُمَيِّزَهَا كَذَا قَالُوا، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ غَايَةً عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يَتْرُكُهُمْ مُخْتَلِطِينَ إِلَى أَنْ يُمَيِّزَ، فَيَكُونُ قَدْ غَيَّا نَفْيَ التَّرْكِ إِلَى وُجُودِ التَّمْيِيزِ، فَإِذَا وُجِدَ التَّمْيِيزُ تَرَكَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَاطِ، وَصَارَ نَظِيرَ مَا أَضْرِبُ زَيْدًا إِلَى أَنْ يَجِيءَ عَمْرٌو، فَمَفْهُومُهُ: إِذَا جَاءَ عَمْرٌو ضَرَبْتُ زَيْدًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا هِيَ غَايَةٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لَهُ. وَمَعْنَى مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى يُخَلِّصُ مَا بَيْنَكُمْ بِالِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، إِلَى أَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: يُمَيِّزَ مِنْ مَيَّزَ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ يَمِيزَ مِنْ مَازَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرِ: يُمَيِّزُ مِنْ أَمَازَ، وَالْهَمْزَةُ لَيْسَتْ لِلنَّقْلِ، كَمَا أَنَّ التَّضْعِيفَ لَيْسَ لِلنَّقْلِ، بَلْ أَفْعَلَ وَفَعِلَ بِمَعْنَى الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ كَحَزِنَ وَأَحْزَنَ، وَقَدَرَ اللَّهُ وَقَدَّرَ.

وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ لَمَّا قَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَلَيْسَ لَهُمْ تَمْيِيزُ ذَلِكَ، أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ أَحَدًا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْغَيْبِ.

وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي أَيْ: يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَيُطْلِعَهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ. فَوُقُوعُ لَكِنَّ هنا لكون هُنَا لِكَوْنِ مَا بَعْدَهَا ضِدًّا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى. إِذْ تَضَمَّنَ اجْتِبَاءَ مَنْ شَاءَ مِنْ رُسُلِهِ إِطْلَاعَهُ إِيَّاهُ عَلَى مَا أَرَادَ تَعَالَى مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، فَإِطْلَاعُ الرَّسُولِ عَلَى الْغَيْبِ هُوَ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَحْيٍ إِلَيْهِ، فَيُخْبِرُ بِأَنَّ فِي الْغَيْبِ كَذَا مِنْ نِفَاقِ هَذَا وَإِخْلَاصِ هَذَا فَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ، لَا مِنْ جِهَةِ إِطْلَاعِهِ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ وَحْيٍ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ.

قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، فِيمَنْ يُؤْمِنُ، وَمَنْ يَبْقَى كَافِرًا، وَلَكِنَّ هَذَا رَسُولٌ مُجْتَبًى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: هِيَ فِي أَمْرِ أَحَدٍ أَيْ: لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى أَنَّكُمْ تُهْزَمُونَ، أَوْ تَكُفُّونَ عَنِ الْقِتَالِ. وَقِيلَ: لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ تَصْرِيحًا بِهِمْ، وَتَسْمِيَةً بِأَعْيَانِهِمْ، وَلَكِنْ بِقَرَائِنِ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ. وَالْغَيْبُ هُنَا مَا غَابَ عَنِ الْبَشَرِ مِمَّا هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ، وَمِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَقُولُونَهَا إِذَا غَابُوا عَنِ النَّاسِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ قَالَ: لِمَ لَا يَكُونُ جَمِيعُنَا أَنْبِيَاءُ؟ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: قَالُوا: لِمَ لَمْ يُوحَ إِلَيْنَا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ؟ فَنَزَلَتْ.

وَقِيلَ: قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَهَلَّا كَانَ الْوَحْيُ إِلَيْنَا، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ فَيَسْتَرْقُونَ السَّمْعَ، فَيَأْتُونَ بِأَخْبَارِهَا إِلَى الْكَهَنَةِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ

<<  <  ج: ص:  >  >>