للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْجَرِّ وَاحِدٌ مَعْمُولُهُ، وَحُذِفَ مَعْمُولُ تَحْسَبَنَّ الْأَوَّلُ، وَبَقِيَ مَعْمُولُهُ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ، إِنَّمَا التَّنَازُعُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ. وَسَاغَ حَذْفُهُ وَحْدَهُ، كَمَا سَاغَ حَذْفُ الْمَفْعُولَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ سِيبَوَيْهِ: مَتَى رَأَيْتُ أَوْ قُلْتُ: زَيْدٌ مُنْطَلَقٌ، لِأَنَّ رَأَيْتُ وَقُلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَنَازَعَا زَيْدٌ مُنْطَلَقٌ، وَفِي الْآيَةِ: لَمْ يَتَنَازَعَا إِلَّا فِي الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ، وَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى:

وَلَا تَحْسَبَنَّ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمُ النَّاسُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِهِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَالتَّخْرِيجِ يَكُونُ هُوَ فَصْلًا لِمَا آتَاهُمُ الْمَحْذُوفُ، لَا لِتَقْدِيرِهِمْ بُخْلَهُمْ. وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ ظَنَّ الَّذِي مَرَّ بِهِنْدٍ هِيَ الْمُنْطَلِقَةُ الْمَعْنَى، ظَنَّ هَنْدًا الشَّخْصَ الَّذِي مَرَّ بِهَا هِيَ الْمُنْطَلِقَةُ، فَالَّذِي تَنَازَعَهُ الْفِعْلَانِ هُوَ الِاسْمُ الْأَوَّلُ، فَأَعْمَلَ الْفِعْلُ الثَّانِيَ وَبَقِيَ الْأَوَّلُ يَطْلُبُ مَحْذُوفًا، وَيَطْلُبُ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مُثْبَتًا، إِذْ لَمْ يَقَعُ فِيهِ التَّنَازُعُ. وَلَمَّا تَضَمَّنَ النَّهْيُ انْتِفَاءَ كَوْنِ الْبُخْلِ أَوِ الْمَبْخُولِ بِهِ خَيْرًا لَهُمْ، وَكَانَ تَحْتَ الِانْتِفَاءِ قَسَمَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ لَا خَيْرَ وَلَا شَرَّ، وَالْآخَرُ إِثْبَاتُ الشَّرِّ، أَتَى بِالْجُمْلَةِ الَّتِي تُعَيِّنُ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ وَهُوَ: إِثْبَاتُ كَوْنِهِ شَرًّا لَهُمْ.

سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ «١» وَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ، أَيْ سَيُلْزَمُونَ عِقَابَهُ إِلْزَامَ الطَّوْقِ، وَفِي الْمَثَلِ لِمَنْ جَاءَ بِهَنَةٍ تَقَلَّدُهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: سَيُجْعَلُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طَوْقٌ مِنْ نَارٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ:

هُوَ مِنَ الطَّاقَةِ لَا مِنَ التَّطْوِيقِ، وَالْمَعْنَى: سَيَحْمِلُونَ عِقَابَ مَا بَخِلُوا بِهِ. كقوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ «٢» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَيُكَلَّفُونَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا بَخِلُوا بِهِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: إِنَّ الْبُخْلَ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ. وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ مَالًا فَيَمْنَعُ مِنْهُ قَرَابَتَهُ الْحَقَّ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ فِي مَالِهِ، فَيُجْعَلُ حَيَّةً يُطَوَّقُهَا فَيَقُولُ: مَا لِي وَلَكَ، فَيَقُولُ: أَنَا مَالُكَ.

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمَهُ فَيَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلٍ عِنْدَهُ فَيَبْخَلُ بِهِ عَلَيْهِ إِلَّا أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ مِنَ النَّارِ يَتَلَمَّظُ حَتَّى يُطَوِّقَهُ»

وَالْأَحَادِيثُ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ مَنْعِ الزَّكَاةِ وَاكْتِنَازِ الْمَالِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ.

وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَهُ مُلْكُ جَمِيعِ مَا يَقَعُ مِنْ إرث في السموات وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لَهُ حَقِيقَةً، فَكُلُّ مَا يَحْصُلُ لِمَخْلُوقَاتِهِ مِمَّا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ مِلْكُهُ هُوَ مَالِكُهُ حقيقة. وإذا كَانَ هُوَ مَالِكُهُ فَمَا لَكُمْ تَبْخَلُونَ بِشَيْءٍ أَنْتُمْ مُمَتَّعُونَ بِهِ لَا مَالِكُوهُ حَقِيقَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ «٣» .


(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٨٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٨٤.
(٣) سورة الحديد: ٥٧/ ٧. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>