للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: نَزَلَتْ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ، وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ: فِي أهل الكتاب وبخلهم تبيان مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ قَالَهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْعِيَالِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ.

وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى بَذْلِ الْأَرْوَاحِ فِي الْجِهَادِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، شَرَعَ فِي التَّحْرِيضِ هُنَا عَلَى بَذْلِ الْأَمْوَالِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، وَبَيَّنَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِمَنْ يَبْخَلُ، وَالْبُخْلُ الشَّرْعِيُّ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ بَذْلِ الْوَاجِبِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ تَحْسَبَنَّ بِالتَّاءِ، فَتَكُونُ الَّذِينَ أَوَّلَ مَفْعُولَيْنِ لِتَحْسَبَنَّ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: بُخْلَ الَّذِينَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ. فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى ضمير الرسول أو ضمير أحد فيكون الَّذِينَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ عَلَى ذلك التقدير وإن كان الذين هو الفاعل، فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: بُخْلُهُمْ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ. وَحَذْفُهُ كَمَا قُلْنَا: عَزِيزٌ جِدًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَلِذَلِكَ الْأَوْلَى تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى قِرَاءَةِ التَّاءِ مِنْ كَوْنِ الَّذِينَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَهُوَ فَصْلٌ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِإِسْقَاطِ هُوَ، وَخَيْرًا هُوَ الْمَفْعُولُ بِتَحْسَبَنَّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَدَلَّ قَوْلُهُ: يَبْخَلُونَ عَلَى هَذَا الْبُخْلِ الْمُقَدَّرِ، كَمَا دَلَّ السَّفِيهُ عَلَى السَّفَهِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِذَا نَهَى السَّفِيهَ جَرَى إليه ... وخالف وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافٍ

وَالْمَعْنَى: جَرَى إِلَى السَّفَهِ انْتَهَى. وَلَيْسَتِ الدَّلَالَةُ فِيهِمَا سَوَاءً لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الدَّالَّ فِي الْآيَةِ هُوَ الْفِعْلُ، وَفِي الْبَيْتِ هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ، وَدَلَالَةُ الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ إِضْمَارُ الْمَصْدَرِ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَمْ تَكْثُرْ دَلَالَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَصْدَرِ إِنَّمَا جَاءَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَوْ فِي غَيْرِهِ إِنْ وُجِدَ.

وَالثَّانِي أَنَّ فِي الْآيَةِ حَذْفًا لِظَاهِرٍ، إِذْ قَدَّرُوا الْمَحْذُوفَ بُخْلُهُمْ، وَأَمَّا فِي الْبَيْتِ فَهُوَ إِضْمَارٌ، لَا حَذْفٌ. وَيَظْهَرُ لِي تَخْرِيجٌ غَرِيبٌ فِي الْآيَةِ تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، إِذَا جَعَلْنَا الْفِعْلَ مُسْنَدًا لِلَّذِينِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَحْسَبَنَّ تَطْلُبُ مَفْعُولَيْنِ، وَيَبْخَلُونَ يَطْلَبُ مَفْعُولًا بِحَرْفِ جَرٍّ، فَقَوْلُهُ: مَا آتَاهُمْ يَطْلُبُهُ يَحْسَبَنَّ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَيَكُونُ هُوَ فَصْلًا، وَخَيْرًا الْمَفْعُولُ الثَّانِي وَيَطْلُبُهُ يَبْخَلُونَ بِتَوَسُّطِ حَرْفِ الْجَرِّ، فَأَعْمَلَ الثَّانِي عَلَى الْأَفْصَحِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَعَلَى مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ يَبْخَلُونَ. فَعُدِّيَ بِحَرْفِ

<<  <  ج: ص:  >  >>