وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّلَمِيُّ: بِمَا أُوتُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَتَقَدَّمَتِ الْأَقْوَالُ فِي أَتَوْا، وَبَعْضُهَا يَسْتَقِيمُ عَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا بِمَفَازَةٍ، وَأُسْقِطَ فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ. ومفازة مَفْعَلَةٌ مِنْ فَازَ، وَهِيَ لِلْمَكَانِ أَيْ: مَوْضِعِ فَوْزٍ، أَيْ: نَجَاةٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أي ببعد مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ الْفَوْزَ مَعْنَاهُ التَّبَاعُدُ مِنَ الْمَكْرُوهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تَزَيُّنَ الْإِنْسَانَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَحُبَّهُ الْمَدْحَ عَلَيْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَمَذْمُومٌ شَرْعًا. وَقَالَ تَعَالَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ «١»
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ»
وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَنَاسَبَ وَصْفُهُ بِأَلِيمٍ لِأَجْلِ فَرَحِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمُ الْمَحْمَدَةَ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلُوا.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا مَلَكَ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ مَمْلُوكُونَ مَقْهُورُونَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسُوا بِنَاجِينَ مِنَ الْعَذَابِ.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ تَقَدَّمَ شَرْحُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَمَعْنَى لَآيَاتٍ: لَعَلَامَاتٌ وَاضِحَةٌ عَلَى الصَّانِعِ وَبَاهِرِ حِكْمَتِهِ، وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إِلَّا لِذَوِي الْعُقُولِ يَنْظُرُونَ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْفِكْرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، لَا كَمَا تَنْظُرُ الْبَهَائِمُ.
وَرَوَى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، حِينَ ذَكَرَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَهُمْ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ موسى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مالك السموات وَالْأَرْضِ، وَذَكَرَ قُدْرَتَهُ، ذَكَرَ أَنَّ فِي خَلْقِهِمَا دَلَالَاتٍ وَاضِحَةً لِذَوِي الْعُقُولِ.
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ الظَّاهِرُ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ بِاللِّسَانِ مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ، وَأَنَّهُ التَّحْمِيدُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَذْكَارِ. هَذِهِ الْهَيْئَاتُ الثَّلَاثَةُ هِيَ غَالِبُ مَا يَكُونُ عَلَيْهَا الْمَرْءُ، فَاسْتُعْمِلَتْ وَالْمُرَادُ بِهَا جَمِيعُ الْأَحْوَالِ. كَمَا
قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ»
وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى الْخَلَاءِ. وَقَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ: عَبْدُ اللَّهُ بْنُ عُمَرَ، وابن سيرين والنخعي. وكرهه:
(١) سورة الصف: ٦١/ ٢.