للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهِيَ بِمَعْنَى جَعَلَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَهَذَا عَكْسُ الْمَنْقُولِ فِي النَّحْوِ وَهُوَ: أَنَّ جَعَلَ يَكُونُ بِمَعْنَى خَلَقَ، فَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ. أَمَّا أَنَّ خَلَقَ يَكُونُ بِمَعْنَى جَعَلَ فَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِمَّنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَالْبَاطِلُ: الزَّائِلُ الذَّاهِبُ وَمِنْهُ:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ وَالْأَحْسَنُ مِنْ أَعَارِيبِهِ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ هَذَا، وَهِيَ حَالٌ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا نَحْوُ قَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ «١» لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ تُحْذَفَ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى النَّفْيِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ.

وَلَمَّا تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْإِقْرَارَ بِأَنَّ هَذَا الْخَلْقَ الْبَدِيعَ لَمْ يَكُنْ بَاطِلًا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا كَلَامُ أُولِي الْأَلْبَابِ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَالْمُتَفَكِّرِينَ فِي الْخَلْقِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْجَهَالَةِ يَذْهَبُونَ إِلَى خِلَافِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَنَزَّهُوهُ تَعَالَى عَنْ مَا يَقُولُ أُولَئِكَ الْمُبْطِلُونَ مِنْ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: لَاعِبِينَ، وَفِي قَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً «٢» وَاعْتُرِضَ بِهَذَا التَّنْزِيهِ الْمُتَضَمِّنِ بَرَاءَةَ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ وَأَفْعَالِ الْمُحْدَثِينَ. بَيْنَ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ رَغْبَتِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ بِأَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ هَمٌّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَلَا اكْتِرَاثٌ بِهَا، إِنَّمَا تَضَرَّعُوا فِي سُؤَالِ وِقَايَتِهِمُ الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا السُّؤَالُ هُوَ نَتِيجَةُ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالْإِقْرَارِ وَالتَّنْزِيهِ. وَالْفَاءُ فِي: فَقِنَا لِلْعَطْفِ، وَتَرْتِيبِ السُّؤَالِ عَلَى الْإِقْرَارِ الْمَذْكُورِ. وَقِيلَ: لِتَرْتِيبِ السُّؤَالِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ سُبْحَانَ مِنَ الْفِعْلِ، أَيْ: نَزَّهْنَاكَ عَمَّا يَقُولُ الْجَاهِلُونَ فَقِنَا. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لِلتَّرْتِيبِ عَلَى مَا تَضَمَّنَ النِّدَاءَ.

رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ هذه استجارة واستعادة. أَيْ: فَلَا تَفْعَلْ بِنَا ذَلِكَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِمَّنْ يَعْمَلُ بِعَمَلِهَا. وَمَعْنَى أَخْزَيْتَهُ: فَضَحْتَهُ. مِنْ خَزِيَ الرَّجُلُ يَخْزَى خِزْيًا، إِذَا افْتَضَحَ. وَخِزَايَةً إِذَا اسْتَحْيَا الْفِعْلُ وَاحِدٌ وَاخْتَلَفَ فِي الْمَصْدَرِ فَمِنَ الِافْتِضَاحِ خِزْيٌ، وَمِنَ الِاسْتِحْيَاءِ خَزَايَةٌ. وَمِنْ ذَلِكَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي «٣» أَيْ لَا تَفْضَحُونِ.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَهَنْتَهُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: أَهْلَكْتَهُ. وَيُقَالُ: خَزَيْتُهُ وَأَخْزَيْتُهُ ثُلَاثِيًّا وَرُبَاعِيًّا، وَالرُّبَاعِيُّ أَكْثَرُ وَأَفْصَحُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَخْزِيُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُذَلُّ الْمَحْقُورُ بِأَمْرٍ قَدْ لَزِمَهُ،


(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٦.
(٢) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١١٥.
(٣) سورة هود: ١١/ ٧٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>