للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الِاخْتِلَافِ، وَلِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُفْرِدَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّقْوَى، طَائِعًا لَهُ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فُرُوعُهُ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْهُ. فَنَادَى تَعَالَى: دُعَاءً عَامًّا لِلنَّاسِ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ مِلَاكُ الْأَمْرِ، وَجَعَلَ سَبَبًا لِلتَّقْوَى تَذْكَارَهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُ أَوْجَدَهُمْ وَأَنْشَأَهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِيجَادِ الْغَرِيبِ الصُّنْعِ وَإِعْدَامِ هَذِهِ الْأَشْكَالِ وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَّقَى. وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى مَا هُوَ مَرْكُوزٌ فِي الطِّبَاعِ مِنْ مَيْلِ بَعْضِ الْأَجْنَاسِ إِلَى بَعْضٍ، وَإِلْفِهِ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، لِيَتَأَلَّفَ بِذَلِكَ عِبَادَهُ عَلَى تَقْوَاهُ. وَالظَّاهِرُ فِي النَّاسِ: الْعُمُومُ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِيهِ تُفِيدُهُ، وَلِلْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَلِلْعِلَّةِ، إِذْ لَيْسَا مَخْصُوصَيْنِ بَلْ هُمَا عَامَّانِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ أَهْلُ مَكَّةَ، كَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَنْظُرُ إِلَى قوله: تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ «١» لِأَنَّ الْعَرَبَ هُمُ الَّذِينَ يَتَسَاءَلُونَ بِذَلِكَ. يَقُولُ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ وَبِالرَّحِمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمُؤْمِنُونَ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «٢»

وَقَوْلِهِ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ»

وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ إِذَا كان الخطاب والنداء بيا أيها النَّاسُ وَكَانَ لِلْكَفَرَةِ فَقَطْ، أَوْ لَهُمْ مَعَ غَيْرِهِمْ أَعْقَبَ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ عَارِفِينَ بِاللَّهِ، فَنُبِّهُوا عَلَى الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ لِأَنْ يَعْرِفُوا نَحْوَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ «٣» يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ «٤» وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ أُعْقِبَ بِذِكْرِ النِّعَمِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ.

قِيلَ: وَجَعَلَ هَذَا الْمَطْلَعَ مَطْلَعًا لِسُورَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: هَذِهِ وَهِيَ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِيَةُ: سُورَةُ الْحَجِّ، وَهِيَ الرَّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي. وَعَلَّلَ هُنَا الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ، وَهُنَاكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ. وَبَدَأَ بِالْمَبْدَأِ بِأَنَّهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى أَنَّهَا تَقْوَى عَامَّةٌ فِيمَا يُتَّقَى مِنْ مُوجِبِ الْعِقَابِ، وَلِذَلِكَ فُسِّرَ بِاجْتِنَابِ مَا جَاءَ فِيهِ الْوَعِيدُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالتَّقْوَى تَقْوَى خَاصَّةً، وَهُوَ أَنْ يَتَّقُوهُ فِيمَا يَتَّصِلُ بِحِفْظِ الْحُقُوقِ بَيْنَهُمْ، فَلَا يَقْطَعُوا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَصْلُهُ. فَقِيلَ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي وَصَلَ بَيْنَكُمْ بِأَنْ جَعَلَكُمْ صِنْوَانًا مُفَرَّعَةً مِنْ أَرُومَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا يَجِبُ لِبَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلِبَعْضٍ، فَحَافِظُوا عَلَيْهِ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُطَابِقٌ لِمَعَانِي السُّورَةِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بِالتَّقْوَى الطَّاعَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْخَشْيَةُ. وقيل: اجتناب


(١) سورة النساء: ٤/ ١.
(٢) سورة الحجرات: ٤٩/ ١٠.
(٣) سورة فاطر: ٣٥/ ٥. [.....]
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>