للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ آدَمُ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَاحِدَةٍ بِالتَّاءِ عَلَى تَأْنِيثِ لَفْظِ النَّفْسِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَاحِدٍ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى، إِذِ الْمُرَادُ بِهِ آدَمُ، أَوْ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، فَجَاءَتْ قِرَاءَتُهُ عَلَى تَذْكِيرِ النَّفْسِ. وَمَعْنَى الْخَلْقِ هُنَا:

الِاخْتِرَاعُ بِطَرِيقِ التَّفْرِيعِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

إِلَى عِرْقِ الثَّرَى وَشَجَتْ عروقي ... وهذا الموت يسلبني شَبَابِي

قَالَ: فِي رَيِّ الظَّمْآنِ، وَدَلَّتِ الْإِضَافَةُ عَلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ الرَّاجِعُ إِلَى التَّوَالُدِ وَالتَّعَاقُبِ وَالتَّتَابُعِ. وَعَلَى أَنَّا لَسْنَا فِيهِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الدَّهْرِيَّةِ، وَإِلَّا لَقَالَ: أَخْرَجَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَأَضَافَ خَلْقَنَا إِلَى آدَمَ، وَإِنْ لَمْ نَكُنْ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ كُنَّا مِنْ نُطْفَةٍ وَاحِدَةٍ حَصَلَتْ بِمَنِ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ، وَلَكِنَّهُ الْأَصْلُ انْتَهَى. وَقَالَ الْأَصَمُّ: لَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، بَلِ السَّمْعُ.

وَلَمَّا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا مَا قَرَأَ كِتَابًا، كَانَ مَعْنَى خَلَقَكُمْ دَلِيلًا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَمِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ دَلِيلًا عَلَى النُّبُوَّةِ انْتَهَى.

وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الْمُفَاخَرَةِ وَالْكِبْرِ، لِتَعْرِيفِهِ إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَدَلَالَةٌ عَلَى الْمَعَادِ، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِخْرَاجِ أَشْخَاصٍ مُخْتَلِفِينَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَقُدْرَتُهُ عَلَى إِحْيَائِهِمْ بطريق الأولى. وزوجها: هِيَ حَوَّاءُ. وَظَاهِرٌ مِنْهَا ابْتِدَاءُ خَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ أَصْلُهَا الَّذِي اخْتُرِعَتْ وَأُنْشِئَتْ مِنْهُ، وَبِهِ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، والسدّي. وقتادة قَالُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَحْشًا فِي الْجَنَّةِ وَحْدَهُ، ثُمَّ نَامَ فَانْتَزَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدَ أَضْلَاعِهِ الْقُصْرَى مِنْ شِمَالِهِ. وقيل: من يمينه، فحلق مِنْهَا حَوَّاءَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُعَضِّدُ هَذَا الْقَوْلَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي

قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا» .

انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لِاضْطِرَابِ أَخْلَاقِهِنَّ، وَكَوْنِهِنَّ لَا يَثْبُتْنَ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، أَيْ: صَعْبَاتُ الْمِرَاسِ، فَهِيَ كَالضِّلْعِ الْعَوْجَاءِ كَمَا جَاءَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ:

إِنَّ الْمَرْأَةَ، فَأَتَى بِالْجِنْسِ وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ حَوَّاءَ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ:

وَخَلَقَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا قَالَهُ: ابْنُ بَحْرٍ وَأَبُو مُسْلِمٍ لِقَوْلِهِ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً «١» ورَسُولًا مِنْهُمْ «٢» . قَالَ الْقَاضِي: الْأَوَّلُ أَقْوَى، إِذْ لَوْ كَانَتْ حَوَّاءُ مَخْلُوقَةً ابْتِدَاءً لَكَانَ


(١) سورة الشورى: ٤٢/ ١١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>