للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّاسُ مَخْلُوقِينَ مِنْ نَفْسَيْنِ لَا مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَلَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ وَقَعَ بِآدَمَ، صَحَّ أَنْ يُقَالَ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَلَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ حَوَّاءَ أَيْضًا كَذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا حَذْفَ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا، لَيْسَ عَائِدًا عَلَى نَفْسٍ، بَلْ هُوَ عَائِدٌ عَلَى الطِّينَةِ الَّتِي فُصِلَتْ عَنْ طِينَةِ آدَمَ. وَخُلِقَتْ مِنْهَا حَوَّاءُ أَيْ: أَنَّهَا خُلِقَتْ مِمَّا خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ. وَظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تقدم: أنها خلقت وآدم فِي الْجَنَّةِ، وَبِهِ قَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقِيلَ: قَبْلَ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ وَبِهِ قَالَ:

كعب الأحبار ووهب، وَابْنُ إِسْحَاقَ. وَجَاءَتِ الْوَاوُ فِي عَطْفِ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلَى أَحَدِ مَحَامِلِهَا، مِنْ أَنَّ خَلْقَ حَوَّاءَ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ النَّاسِ. إِذِ الْوَاوِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبٍ زَمَانِيٍّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الصِّلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِخَلْقِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُهَا وَاقِعًا بَعْدَ خَلْقِ حَوَّاءَ، لِأَجْلِ أَنَّهُمُ الْمُنَادَوْنَ الْمَأْمُورُونَ بِتَقْوَى رَبِّهِمْ. فَكَانَ ذِكْرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِمْ أَوَّلًا آكَدَ، وَنَظِيرُهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ «١» وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَلْقَهُمْ تَأَخَّرَ عَنْ خَلْقِ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا هُمُ الْمَأْمُورِينَ بِالْعِبَادَةِ وَالْمُنَادَيْنَ لِأَجْلِهَا، اعْتَنَى بِذِكْرِ التَّنْبِيهِ عَلَى إِنْشَائِهِمْ أَوَّلًا، ثُمَّ ذَكَرَ إِنْشَاءَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ. وَقَدْ تَكَلَّفَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي إِقْرَارِ مَا عُطِفَ بِالْوَاوِ مُتَأَخِّرًا عَنْ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، فَقَدَّرَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ مَحْذُوفًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَعْطُوفِ فِي الزَّمَانِ، فَقَالَ: يُعْطَفُ عَلَى مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَنْشَأَهَا أَوِ ابْتَدَأَهَا وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: شُعَبُكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ هَذِهِ صِفَتُهَا، وَهِيَ أَنَّهُ أَنْشَأَهَا مِنْ تُرَابٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهَا. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ هَذَا الْوَجْهِ مَعَ مَسَاغِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْعَرَبِيَّةُ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْوَجْهَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: يُعْطَفُ عَلَى خَلَقَكُمْ. وَيَكُونُ الخطاب فِي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ آدَمَ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْجِنْسِ الْمُفَرَّعِ مِنْهُ، وَخَلَقَ مِنْهَا أُمَّكُمْ حَوَّاءَ انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:

وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا مَعْطُوفًا عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ وَاحِدَةٍ التَّقْدِيرُ مِنْ نَفْسٍ وَحَدَتْ، أَيِ انْفَرَدَتْ. وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، فَيَكُونُ نَظِيرَ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ «٢» وَتَقُولُ الْعَرَبُ: وَحَدَ يَحِدُ وَحْدًا وَوَحْدَةً، بِمَعْنَى انْفَرَدَ.

وَمِنْ غَرِيبِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ عَنَى بِالنَّفْسِ الرُّوحَ الْمَذْكُورَةَ فِيمَا قِيلَ أَنَّهُ

قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَامِ بِكَذَا وَكَذَا سَنَةً»

وَعَنَى بِزَوْجِهَا الْبَدَنَ، وعنى


(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١.
(٢) سورة الصافات: ٣٧/ ١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>