للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها «١» وتُوصُونَ ويُوصِينَ «٢» ويكون قَدْ حُذِفَ مِمَّا سَبَقَ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَخْتَصُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى انْتِفَاءُ الضَّرَرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الضِّرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ.

وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ ضَارَّ فِي وَصِيَّتِهِ أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي وَادِي جَهَنَّمَ» .

وَقَالَ قتادة: نَهَى اللَّهُ عَنِ الضِّرَارِ فِي الْحَيَاةِ وَعِنْدَ الْمَمَاتِ.

قَالُوا: وَانْتِصَابُ غَيْرَ مُضَارٍّ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي يُوصَى، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا يُوصَى. وَلَا يَجُوزُ مَا قَالُوهُ، لِأَنَّ فِيهِ فَصْلًا بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ دَيْنٍ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ دَيْنٍ، مَعْطُوفٌ عَلَى وَصِيَّةٍ الْمَوْصُوفَةِ بِالْعَامِلِ فِي الْحَالِ. وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالُوهُ مِنَ الْأَعْرَابِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا غَيْرَ مُضَارٍّ أَوْ دَيْنٍ.

وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: يُوصَى بِفَتْحِ الصَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حَالًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ الْمُضَارَّ لَمْ يُذْكَرْ لِأَنَّهُ مَحْذُوفٌ قَامَ مَقَامَهُ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلَا يَصِحُّ وُقُوعُ الْحَالِ مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ. لَوْ قُلْتَ: تُرْسَلُ الرِّيَاحُ مُبَشِّرًا بِهَا بِكَسْرِ الشِّينِ، لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرًا بِهَا. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَدَّرُ لَهُ نَاصِبٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَعْنَى، وَيَكُونُ عَامًّا لِمَعْنَى مَا يَتَسَلَّطُ عَلَى الْمَالِ بِالْوَصِيَّةِ أَوِ الدَّيْنِ، وَتَقْدِيرُهُ: يَلْزَمُ ذَلِكَ مَالَهُ أَوْ يُوجِبُهُ فِيهِ غَيْرَ مُضَارٍّ بِوَرَثَتِهِ بِذَلِكَ الْإِلْزَامِ أَوِ الْإِيجَابِ. وَقِيلَ: يُضْمَرُ يُوصِي لِدَلَالَةِ يُوصَى عَلَيْهِ، كَقِرَاءَةِ يُسَبَّحُ بِفَتْحِ الْبَاءِ. وَقَالَ رِجَالٌ: أَيْ يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ. وَانْتِصَابُ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَصِيَّةً، كَمَا انْتَصَبَ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ «٣» .

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْعَامِلُ يُوصِيكُمُ. وَقِيلَ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ قَوْلِهِ: فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ «٤» أَوْ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ «٥» وَجَوَّزَ هُوَ والزمخشري نصب وصية بمضار عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ، لِأَنَّ الْمُضَارَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا تَقَعُ بِالْوَرَثَةِ لَا بِالْوَصِيَّةِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَرَثَةُ قَدْ وَصَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ صَارَ الضَّرَرُ الْوَاقِعُ بِالْوَرَثَةِ كَأَنَّهُ وَقَعَ بِالْوَصِيَّةِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّخْرِيجَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ غَيْرَ مُضَارِّ وَصِيَّةٍ، فَخَفَضَ وَصِيَّةً بِإِضَافَةِ مُضَارٍّ إِلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ الْمَعْنَى: يَا سارقا في الليلة،


(١) سورة النساء: ٤/ ١١.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٢.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١١. [.....]
(٤) سورة النساء: ٤/ ١١.
(٥) سورة النساء: ٤/ ١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>