حَتَّى نُسِخَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ. وَالْحَبْسُ فِي الْبَيْتِ آلَمُ وَأَوْجَعُ مِنَ الضَّرْبِ وَالْإِهَانَةِ، لَا سِيَّمَا إِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَخْذُ الْمَهْرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ، لِأَنَّ أَلَمَ الْحَبْسِ مُسْتَمِرٌّ، وَأَلَمَ الضَّرْبِ يَذْهَبُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مُنِعْنَ مِنَ النِّكَاحِ حَتَّى يَمُتْنَ عُقُوبَةً لَهُنَّ حِينَ طَلَبْنَ النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ بِحَدٍّ بَلْ هُوَ إِمْسَاكٌ لَهُنَّ بَعْدَ أَنْ يَحُدَّهُنَّ الْإِمَامُ صِيَانَةً لَهُنَّ أَنْ يَقَعْنَ فِي مِثْلِ مَا جَرَى لَهُنَّ بِسَبَبِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبُيُوتِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْإِمْسَاكُ حَدًّا. وَإِذَا كَانَ يَتَوَفَّى بِمَعْنَى يُمِيتُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذَا الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، وَهُنَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِالتَّوَفِّي الْأَخْذَ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: حَتَّى يَأْخُذَهُنَّ الْمَوْتُ. وَالسَّبِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُنَّ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ. فَقِيلَ:
هُوَ النِّكَاحُ الْمُحَصِّنُ لَهُنَّ الْمُغْنِي عَنِ السِّفَاحِ، وَهَذَا عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ لِلْأُمَرَاءِ أَوِ الْقُضَاةِ، دُونَ الْأَزْوَاجِ. وَقِيلَ: السَّبِيلُ هُوَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ الزِّنَا مِنَ الْحَدِّ، وَهُوَ
«الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ»
رَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ. وَثَبَتَ تَفْسِيرُ السَّبِيلِ بِهَذَا مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَحَدِيثُ عُبَادَةَ لَيْسَ بِنَاسِخٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا لِأَنَّهُ الْجَلْدُ، بَلْ هُوَ مُبَيِّنٌ لِمُجْمَلٍ فِي هَذِهِ الآية إذ غيا إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا، وَهُوَ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ آيَةِ الْجَلْدِ.
وَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ طَعْنُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْقُرْآنَ، بِدَعْوَاهُ أَنَّ آيَةَ الْحَبْسِ مَنْسُوخَةٌ، بِحَدِيثِ عُبَادَةَ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْجَلْدِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَالسُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، خِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، بَلِ الْبَيَانُ وَالتَّخْصِيصُ أَوْلَى مِنِ ادِّعَاءِ نَسْخٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّ آيَةَ الْحَبْسِ مَنْسُوخَةٌ بِالْحَدِيثِ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْجَلْدِ، وَآيَةَ الْجَلْدِ مَنْسُوخَةٌ بآية الرجم.
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما تَقَدَّمَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَاخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهَا فِي اللِّوَاطَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ ظَاهِرُ التَّثْنِيَةِ. وَظَاهِرُ مِنْكُمْ إِذْ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ لِلذُّكُورِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا فِي الزُّنَاةِ الذكور والإناث. واللذان أُرِيدَ بِهِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ، وَغَلَبَ الْمُذَكَّرُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، وَتَرَتَّبَ الْأَذَى عَلَى إِتْيَانِ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالشَّهَادَةِ عَلَى إِتْيَانِهَا. وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُوَ: شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ. وَالْأَمْرُ بِالْأَذَى يدل عَلَى مُطْلَقِ الْأَذَى بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ بِهِمَا.
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ النَّيْلُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ، وَضَرْبُ النِّعَالِ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute