للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى الْحَصْرِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُفَرِّقُ بَيْنَ تَقْدِيرِ الْحَالِ، وَبَيْنَ خَبَرٍ مُسْتَأْنَفٍ فِي قَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ رَكِبَ الْفَرَسَ، أَنَّكَ إِنْ أَرَدْتَ الْحَالَ بِقَوْلِكَ: رَكِبَ الْفَرَسَ، قَدَّرْتَ قَدْ. وَإِنْ أدرت خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ لَمْ نَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهَا.

وَقَالَ الجرجاني: تقديره إن جاؤوكم حَصِرَتْ، فَحَذْفُ إِنْ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِضْمَارِ لَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ، أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ تَقْدِيرُهُ: عَنْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ.

وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ هَذَا تَقْرِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مِقْدَارِ نِعْمَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ. أَيْ: لَوْ شَاءَ لَقَوَّاهُمْ وَجَرَّأَهُمْ عَلَيْكُمْ، فإذ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِالْهُدْنَةِ فَاقْبَلُوهَا.

وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَوْنَ كُفَّارًا، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ نِعْمَتَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَهْدِهِمْ لَكَانُوا فِي جُمْلَةِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَيْكُمْ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّطَ اللَّهُ الْكَفَرَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ مُكَافَّتُهُمْ إِلَّا لِقَذْفِ اللَّهِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ؟ وَلَوْ شَاءَ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا مِنِ ابْتِلَاءٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يَقْذِفْهُ، فَكَانُوا مُسَلَّطِينَ مُقَاتِلِينَ غَيْرَ كَافِّينَ، فَذَلِكَ مَعْنَى التَّسْلِيطِ انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ قَبْلَهُ. قَالَ: أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ أَنْ يَفْعَلَ، وَتَسْلِيطُ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ بِأَمْرٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِإِزَالَةِ خَوْفِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَتَقْوِيَةِ أَسْبَابِ الْجُرْأَةِ عَلَيْهِمْ. وَالْغَرَضُ بِتَسْلِيطِهِمْ عليهم لأمور ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: تَأْدِيبًا لَهُمْ وَعُقُوبَةً لِمَا اجْتَرَحُوا مِنَ الذُّنُوبِ. الثَّانِي: ابْتِلَاءً لِصَبْرِهِمْ وَاخْتِبَارًا لِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ كَمَا قَالَ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ «١» الْآيَةَ. الثَّالِثُ: لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ وَتَكْثِيرِ حَسَنَاتِهِمْ. أَوِ الْمَجْمُوعِ وَهُوَ أَقْرَبُ لِلصَّوَابِ انْتَهَى.

وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ اسْتُثْنُوا مُؤْمِنُونَ لَا كَافِرُونَ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بِتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ لِيَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ إن أقدمتهم عَلَى مُقَاتَلَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ. وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ فَعَلَ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ، إِلَّا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ الظُّلْمَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ شَاءَ ذَلِكَ وَأَرَادَهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبُحُ مِنْهُ تَسْلِيطُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وتقويته عليه.


(١) سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢/ ١٥٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>