للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الَّتِي لَزِمَتِ الْقَاعِدِينَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الِاسْتِثْنَاءُ لِرَفْعِ الْعِقَابِ، لَا لِنَيْلِ الثَّوَابِ. المعذور يستوي فِي الْأَجْرِ مَعَ الَّذِي خَرَجَ إِلَى الْجِهَادِ، إِذْ كَانَ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ قَادِرًا لَخَرَجَ. قَالَ: اسْتَثْنَى الْمَعْذُورَ مِنَ الْقَاعِدِينَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَثَبَتَ الِاسْتِوَاءُ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَالْقَاعِدِ الْمَعْذُورِ انْتَهَى. وَإِنَّمَا نَفَى الِاسْتِوَاءَ فِيمَا عَلِمَ أَنَّهُ مُنْتَفٍ ضَرُورَةً لِإِذْكَارِهِ مَا بَيْنَ الْقَاعِدِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَالْمُجَاهِدِ مِنَ التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ، فَيَأْنَفُ الْقَاعِدُ مِنَ انْحِطَاطِ مُنْزِلَتِهِ فَيَهْتَزُّ لِلْجِهَادِ وَيَرْغَبُ فِيهِ. وَمِثْلُهُ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ «١» أُرِيدَ بِهِ التَّحْرِيكُ مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِ وَأَنَفَتِهِ لِيَنْهَضِمَ إِلَى التَّعَلُّمِ، وَيَرْتَقِيَ عَنْ حَضِيضِ الْجَهْلِ إِلَى شَرَفِ الْعِلْمِ.

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ الْجِهَادُ فِيهِ تَطَوُّعًا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَوِي مَعْنَى، لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْفَرْضَ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَسْتَوِي هُوَ وَالْآتِي بِهِ، بَلْ يَلْحَقُ الْوَعِيدُ بِالتَّارِكِ، وَيَرْغَبُ الْآتِي بِهِ فِي الثَّوَابِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: نَفْيُ التَّسَاوِي بَيْنَ فَاعِلِ الْجِهَادِ وَتَارِكِهِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ مَا كَانَ فَرْضًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. إِلَّا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ «٢» نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ المؤمن والفاسق، والإيمان فرض. وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ

«٣» الْآيَةَ وَقَالَ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَالْعِلْمُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَرْضٌ. وَإِذْ جَازَ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ فَاعِلِ التَّطَوُّعِ وَتَارِكِهِ، فَلِأَنْ يَجُوزَ بَيْنَ فَاعِلِ الْفَرْضِ وَتَارِكِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْحَقِ الْإِثْمُ تَارِكَهُ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَفْيَ هَذَا الِاسْتِوَاءِ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِقَاعِدَةٍ عَنْ جِهَادٍ مَخْصُوصٍ، وَلَا مُجَاهِدٍ جِهَادًا مَخْصُوصًا بَلْ ذَلِكَ عام.

وعن ابن عابس: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَيْهَا. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: إِلَى تَبُوكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أولوا الضَّرَرِ هُمْ أَهْلُ الْأَعْذَارِ. إِذْ قَدْ أَضَرَّتْ بِهِمْ حَتَّى مَنَعَتْهُمُ الْجِهَادَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَقَدْ خَلَّفْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ»

وَجَاءَ هُنَا تَقْدِيمُ الْأَمْوَالِ عَلَى الْأَنْفُسِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ «٤» تَقْدِيمُ الْأَنْفُسِ عَلَى الْأَمْوَالِ لِتَبَايُنِ الْغَرَضَيْنِ، لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ بَائِعٌ، فَأَخَّرَ ذِكْرَهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُضَايَقَةَ فِيهَا أَشَدُّ، فَلَا يَرْضَى بِبَذْلِهَا إِلَّا في آخر


(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٩.
(٢) سورة السجدة: ٣٢/ ١٨.
(٣) سورة الجاثية: ٤٥/ ٢١.
(٤) سورة التوبة: ٩/ ١١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>