للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَرَاتِبِ. وَالْمُشْتَرِي قُدِّمَتْ لَهُ النَّفْسُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الرَّغْبَةَ فِيهَا أَشَدُّ، وَإِنَّمَا يرعب أَوَّلًا فِي الْأَنْفَسِ الْغَالِي.

فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً الظَّاهِرُ: أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِمْ هُمُ الْقَاعِدُونَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ، فَذَكَرَ مَا امْتَازُوا بِهِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَيْهِمْ بِدَرَجَةٍ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَا لَهُمْ لَا يَسْتَوُونَ؟ فَقِيلَ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ هُنَا دَرَجَةً هُمُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ آخِرًا دَرَجَاتٍ، وَمَا بَعْدَهَا وَهُمُ الْقَاعِدُونَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. وَتَكَرَّرَ التَّفْضِيلَانِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِهِمَا، فَالتَّفْضِيلُ الْأَوَّلُ بِالدَّرَجَةِ هُوَ مَا يُؤْتَى فِي الدُّنْيَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالتَّفْضِيلُ الثَّانِي هُوَ مَا يُخَوِّلُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَنَبَّهَ بِإِفْرَادِ الْأَوَّلِ، وَجَمَعَ الثَّانِي عَلَى أَنَّ ثَوَابَ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ يَسِيرٌ. وَقِيلَ: الْمُجَاهِدُونَ تَتَسَاوَى رُتَبُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحْوَالِهِمْ، كَتَسَاوِي الْقَاتِلِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَخْذِ سَلَبِ مَنْ قَتَلُوهُ وَتَسَاوِي نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفُرْسَانِ وَنَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مُتَفَاوِتُونَ بِحَسَبِ إِيمَانِهِمْ، فَلَهُمْ دَرَجَاتٌ بِحَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ الْغُفْرَانُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ الرَّحْمَةُ فَقَطْ. فَكَأَنَّ الرَّحْمَةَ أَدْنَى الْمَنَازِلِ، وَالْمَغْفِرَةُ فَوْقَ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ بُعْدُ الدَّرَجَاتِ عَلَى الطَّبَقَاتِ، وَعَلَى هَذَا نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ «١» وَمَنَازِلُ الْآخِرَةِ تَتَفَاوَتُ. وَقِيلَ: الدَّرَجَةُ الْمَدْحُ وَالتَّعْظِيمُ، وَالدَّرَجَاتُ مَنَازِلُ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا غَيْرُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِمْ ثَانِيًا. فَالْأَوَّلُ هُمُ الْقَاعِدُونَ بِعُذْرٍ، وَالثَّانِي هُمُ الْقَاعِدُونَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمُفَضَّلُ بِهِ: فَفِي الْأَوَّلِ دَرَجَةٌ، وَفِي الثَّانِي دَرَجَاتٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَهُوَ مَنْ لَا يستوي عنده أولوا الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ.

وَقِيلَ: اخْتَلَفَ الْجِهَادَانِ، فَاخْتَلَفَ مَا فُضِّلَ بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْجِهَادَ جِهَادَانِ: صَغِيرٌ، وَكَبِيرٌ. فَالصَّغِيرُ مُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ، وَالْكَبِيرُ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ. وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ

قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»

وَإِنَّمَا كَانَ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ أَعْظَمَ، لِأَنَّ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فَقَدْ جَاهَدَ الدُّنْيَا، وَمَنْ غَلَبَ الدُّنْيَا هَانَتْ عَلَيْهِ مُجَاهَدَةُ الْعِدَا، فَخَصَّ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ بِالدَّرَجَاتِ تَعْظِيمًا لَهَا. وَقَدْ تَنَاقَضَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْقَاعِدِينَ فَقَالَ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ جُمْلَةٌ مُوَضِّحَةٌ لِمَا نُفِيَ مِنَ اسْتِوَاءِ الْقَاعِدِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا لَهُمْ


(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٦٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>