للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يَسْتَوُونَ؟ فَأُجِيبَ بِذَلِكَ: وَالْمَعْنَى عَلَى الْقَاعِدِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، لِكَوْنِ الْجُمْلَةِ بَيَانًا لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى الْمُتَضَمِّنَةِ لِهَذَا الْوَصْفِ. ثُمَّ قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) : قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُفَضَّلِينَ دَرَجَةً وَمُفَضَّلِينَ دَرَجَاتٍ مَنْ هُمْ؟ (قُلْتُ) : أَمَّا الْمُفَضَّلُونَ دَرَجَةً وَاحِدَةً فَهُمُ الَّذِينَ فُضِّلُوا عَلَى الْقَاعِدِينَ الْأَضِرَّاءِ، وَأَمَّا الْمُفَضَّلُونَ دَرَجَاتٍ فَالَّذِينَ فُضِّلُوا عَلَى الْقَاعِدِينَ الَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ اكْتِفَاءً بِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْغَزْوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ انْتَهَى كَلَامُهُ. فَقَالَ: أَوَّلًا الْمَعْنَى عَلَى الْقَاعِدِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، وَقَالَ فِي هَذَا الْجَوَابِ: عَلَى الْقَاعِدِينَ الْأَضِرَّاءِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: دَرَجَاتٍ، لَا يُرَادُ بِهِ عَدَدٌ مَخْصُوصٌ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُجَاهِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ السَّبْعُ الْمَذْكُورَةُ فِي بَرَاءَةَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ «١» الْآيَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دَرَجَاتُ الْجِهَادِ لَوْ حُصِرَتْ لَكَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ: الدَّرَجَاتُ فِي الْجَنَّةِ سَبْعُونَ دَرَجَةً، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ حَضْرُ الْجَوَادِ الْمُضْمَرِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَإِلَى نَحْوِهِ ذَهَبَ: مُقَاتِلٌ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ بَيْنَ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»

وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ، هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، لَا أَنَّ مَدْلُولَ دَرَجَةٍ مُخَالِفٌ لِمَدْلُولِ دَرَجَاتٍ فِي الْمَعْنَى، بَلْ هُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى. قَالَ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ «٢» لَا يُرَادُ بِهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، بَلْ أَشْيَاءُ. وَكَرَّرَ التَّفْضِيلَ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّرْغِيبِ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَاتُرِيدِيُّ قَالَ: وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، حَيْثُ يَسْقُطُ بِقِيَامِ بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ خِطَابُ قَوْلِهِ: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَعُمُّ انْتَهَى.

وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أَيْ وَكُلًّا مِنَ الْقَاعِدِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ. وَقِيلَ: وَكُلًّا مِنَ الْقَاعِدِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، وَأُولِي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدِينَ. وَالْحُسْنَى هُنَا: الْجَنَّةُ بِاتِّفَاقٍ.

وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: هَذَا الْوَعْدُ لَا يَلِيقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا لِلْمُجَاهِدِينَ مِنَ الْحَظِّ عَاجِلًا جَازَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ كَمَا اخْتُصَّ بِهَذِهِ النِّعَمِ، فَكَذَلِكَ يُخْتَصُّ بِالثَّوَابِ. فَبَيَّنَ أَنَّ لِلْقَاعِدِينَ مَا لِلْمُجَاهِدِينَ مِنَ الْحُسْنَى فِي الْوَعْدِ مَعَ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ فَضْلَ دَرَجَاتٍ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَأَوْهَمَ أَنَّ حَالَهُمَا فِي الْوَعْدِ بِالْحُسْنَى سَوَاءٌ انْتَهَى. وَانْتَصَبَ كُلًّا عَلَى أَنَّهُ مفعول أوّل لوعد، وَالثَّانِي هُوَ الْحُسْنَى. وَقُرِئَ: وَكُلٌّ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَحَذْفِ الْعَائِدِ أَيْ: وَكُلَّهُمْ وعد الله.


(١) سورة التوبة: ٩/ ١٢٠. [.....]
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>