تَسَبُّبًا لِذَلِكَ الْعَفْوِ، ثُمَّ عَطَفَهُ عَلَيْهِمَا تَنْبِيهًا عَلَى مَنْزِلَتِهِ وَاعْتِدَادًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْدَرِجًا فِي إِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ، فَجَعَلَهُ قَسَمًا بِالْعَطْفِ لَا قَسِيمًا اعْتِنَاءً بِهِ. وَلِذَلِكَ أَتَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِصِفَةِ الْعَفْوِ وَالْقُدْرَةِ مَنْسُوبَةً لَهُ تَعَالَى لِيُقْتَدَى بِسُنَّتِهِ، وَيُتَخَلَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْفُو عَنِ الْجَانِينَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَكَانَ بِالصِّفَتَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكْثُرَ مِنْهُ الْعَفْوُ مَعَ كَثْرَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا» .
وَقَالَ تَعَالَى:
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ «١» . وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو عَنِ الْجَانِينَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ فَعَلَيْكُمْ بِالْعَفْوِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنِّي أَقْدَرُ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ ذُنُوبِكَ مِنْكَ عَلَى عَفْوِكَ عَنْ صَاحِبِكَ. وَقِيلَ: عَفُوًّا لِمَنْ عَفَى قَدِيرًا عَلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ:
نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، آمَنَتِ الْيَهُودُ بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَكَفَرَتْ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَآمَنَتِ النَّصَارَى بِعِيسَى والإنجيل وكفرت بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً، آمَنُوا بِمُوسَى وعزيرا وَالتَّوْرَاةِ وَكَفَرُوا بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ وَمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ مَا عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ سُوءِ الْخَلِيقَةِ وَمَذْمُومِ الطَّرِيقَةِ، أَخَذَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، جَعَلَ كُفْرَهُمْ بِبَعْضِ الرُّسُلِ كُفْرًا بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَكُفْرَهُمْ بِالرُّسُلِ كُفْرًا بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَلَا نُؤْمِنُ، بِفُلَانٍ، وَفُلَانٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ يَعْنِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: هُوَ تَصْدِيقُ اليهود بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَكِنْ لَيْسَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَنَحْوُ هَذَا مِنْ تَفَرُّقَاتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تَعَنُّتًا وَرَوَغَانًا.
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أَيْ طَرِيقًا وَسَطًا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا.
أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: هُمْ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذلك الإيمان ينفعهم.
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٣٤.