للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ: حَقًّا، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ حَقًّا أَيْ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا. أَوْ هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: كُفْرًا حَقًّا أَيْ: ثَابِتًا يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ. أَوْ مَنْصُوبٍ عَلَى الْحَالِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِذَلِكَ نَظَائِرُ، وَقَدْ طَعَنَ الْوَاحِدِيُّ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ وَقَالَ: الْكُفْرُ لَا يَكُونُ حَقًّا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ إِنَّهُ لَا يُرَادُ بِحَقًّا الْحَقُّ الَّذِي هُوَ مُقَابِلٌ لِلْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ كُفْرٌ ثَابِتٌ مُتَيَقَّنٌ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّوْكِيدُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ دَاعِيَ الْإِيمَانِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى أَيْدِيهِمْ، فَكَوْنُهُمْ فَرَّقُوا فِي الْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْجَمِيعِ، إِذْ لَيْسَ إِيمَانُهُمْ بِبَعْضٍ نَاشِئًا عَنِ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ، وَإِنَّمَا هُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّشَهِّي وَالتَّلَاعُبِ.

وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِالْإِهَانَةِ فِي الْعَذَابِ.

وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَتْبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى دُخُولِ بَيْنَ عَلَى أَحَدٍ فِي الْبَقَرَةِ. فِي قَوْلِهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «١» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ صَرَّحَ تَعَالَى بِوَعْدِ هَؤُلَاءِ، كَمَا صَرَّحَ بِوَعِيدِ أُولَئِكَ. وَقَرَأَ حَفْصٌ: يُؤْتِيهِمْ بِالْيَاءِ لِيَعُودَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ قَبْلَهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالنُّونِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَمُقَابِلُهُ وَأَعْتَدْنَا. وَقَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ: قِرَاءَةُ النُّونِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَنْهَمُ، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ مَشَاكِلٌ لِقَوْلِهِ: وَأَعْتَدْنَا، لَيْسَ بِجَيِّدٍ وَلَا أَوْلَوِيَّةَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا مُتَوَاتِرَةٌ، هَكَذَا نَزَلَتْ، وَهَكَذَا أُنْزِلَتْ.

وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً لَمَّا وَعَدَهُمْ تَعَالَى بالثواب زادهم تبشيرا بالتجاوز عَنِ السَّيِّئَاتِ وَبِرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ.

يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَتِ الْيَهُودُ:

إن كنت صادقا فجيء بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ جُمْلَةً كَمَا جَاءَ مُوسَى بِالْكِتَابِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: قَالُوا: ائْتِ بِأَلْوَاحٍ فِيهَا كِتَابُكَ كَمَا أَتَى مُوسَى بِأَلْوَاحٍ فِيهَا التَّوْرَاةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: سَأَلُوهُ أَنْ يَأْتِيَ بِكِتَابٍ خَاصٍّ لِلْيَهُودِ يَأْمُرُهُمْ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالُوا: لَنْ نُتَابِعَكَ عَلَى مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى فُلَانٍ وَإِلَى فُلَانٍ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ يَقْتَضِي أَنَّ سُؤَالَهُمْ كَانَ عَلَى نَحْوِ سُؤَالِ عَبْدِ اللَّهِ بن


(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٨٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>